وضع الملايين فى العالم أيديهم على قلوبهم يوم الأحد الماضى بعد عملية «شبكة العنكبوت» العسكرية التى نفذتها أوكرانيا داخل العمق الروسى بطائرات مسيرة، وضربت خلالها عدة مطارات حربية روسية فى سيبيريا وأصابت العديد من قاذفات القنابل الإستراتيجية المرابطة فى هذه المطارات، بما قدرت المصادر خسائر روسيا نتيجة هذه الضربة المفاجئة بعيدة المدى بـ7مليارات دولار.
وبينما تصدرت التكهنات برد روسى قاصم محتمل مواقع التواصل فى مختلف أنحاء العالم وأثيرت التخوفات من استخدام موسكو أسلحتها النووية التكتيكية، بما يمكن أن يشمل حرباً عالمية ثالثة، كان الوفدان الروسى والأوكرانى يلتقيان فى مدينة أسطنبول التركية صباح الإثنين أى قبل مرور أربع وعشرين ساعة على هذه الضربة، ليبدأ جلستهما الثانية فى مفاوضات وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب وكأن شيئا لم يحدث..!
تباهت أوكرانيا بنجاحها فى اختراق العمق الروسي، وقدرتها على الوصول إلى أى مكان داخل روسيا، وبدأت تنشر تفاصيل الإعداد للعملية وكيف تم نقل المسيرات داخل شاحنات إلى العمق الروسي، وإطلاقها.. إلى آخر خطوات العملية، التى وصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية بأنها «غيرت أسلوب إدارة الحروب فى القرن الحادى والعشرين».
بينما استدعى الرئيس الروسى بوتين قادة جيشه وأجهزة مخابراته لاجتماع عاجل، وتم تكثيف الهجمات العسكرية داخل أوكرانيا بصورة غير مسبوقة، ولكن بالأسلحة التقليدية، وخرج نائب رئيس مجلس الأمن الروسى «ميدفيديف» ليطمئن الشعب الذى أثارت العملية الأوكرانية قلقه ويقول.. «إن القلق وارد.. لكن الانتقام لا مفر منه» جيشنا يتقدم بنشاط وسيستمر فى التقدم.. وكل ما هو مخطط له أن يدمر سوف يدمر حتما».
أما المتحدث الرسمى باسم الكرملين – الرئاسة الروسية – فكشف عن أن «مفاوضات اسطنبول ضرورية لروسيا ليتحقق نصر سريع وليس من أجل التوصل إلى سلام بحلول وسط، وشروط غير واقعية.. اخترعها أحدهم».
والواقع أننا أصبحنا أمام حرب مكشوفة أهدافها من الطرفين..
روسيا تركز على التقدم العسكرى الميدانى فى أوكرانيا للاستيلاء على أكبر مساحات ممكنة من الأراضى الأوكرانية حتى قال الرئيس الأمريكى ترامب بعد محادثته الهاتفية مع الرئيس الروسى الشهر الماضى إن بوتين يريد الاستيلاء على «كل أوكرانيا».
وروسيا تستثمر فى ذلك تفوقها العسكرى كثانى أكبر قوة عسكرية فى العالم بعد الولايات المتحدة وقدرتها – بالتالى على حشد أكبر الطاقات والموارد البشرية والاقتصادية، وعلى احتمال حرب طويلة المدى حتى تحقيق أهدافها.
أما أوكرانيا فقدراتها العسكرية والبشرية الذاتية محدودة ومع أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وحلف الأطلنطى لم يتوقفوا عن إمدادها بما تطلبه من مساعدات اقتصادية وعسكرية ومخابراتية، فضلا عن تقييدهم القدرات العسكرية والاقتصادية الروسية بما يقرب من عشرين حزمة عقوبات على مدى سنوات الحرب الثلاث أملا فى سد الفجوة بينها وبين روسيا، فإنها لم تتمكن من تحقيق النصر، ولا اقتربت منه، ولا ظهر أن لديها تصورا لإمكانية تحقيقه إلا لو حارب العالم كله معها.
وكانت هذه هى النقطة التى «عاير» بها الرئيس الأمريكى ترامب نظيره الأوكرانى «زيلينسكي» فى لقائهما الشهير بالبيت الأبيض قائلا له: أنت لا تتوقف عن طلب المساعدات ولم تنجح فى فعل شيء ولن يمكنك الانتصار على روسيا.
لذلك بدأ زيلنسكى يفكر، أو بدأ حلفاؤه الغربيون يفكرون له فى كيفية الخروج من واقع عدم التكافؤ بين قوة بلاده حتى وهى مدعومة بمساعداتهم له والقوة الروسية.
وكان أن لجأ زيلنسكى إلى القيام بعمليات نوعية مميزة ضد روسيا تحدث تأثيرا معنويا سلبيا على الجيش والشعب والقيادة الروسية، ودويا إعلاميا عالميا كبيرا، باعتبارها «إهانة» لقوة عسكرية عظمى من دولة غير عظمي.
المسيرات الأوكرانية مثلا تدخل الأجواء الروسية وتصل إلى موسكو، وتقترب من مبنى الكرملين فيشعر الشعب الروسى بأن سماءه مفتوحة ومخترقة، وتهتز ثقته بالقيادة السياسية والعسكرية.
القوات الأوكرانية تستغل ثغرة فى الحدود مع روسيا، وتدخل منها إلى منطقة «كورسك» الروسية وتتمركز فيها، وتضحى بآلاف الجنود من أجل أن تحظى بسطور فى كتب التاريخ العسكرى تقول إن الجيش الأوكرانى كان أول جيش فى العالم يغزو الأراضى الروسية ويتمركز فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أى منذ ثمانين عاما.
وخلال الأسابيع الأخيرة أقامت أوكرانيا بعدة استعراضات استفزازية لمجرد إثارة قلق الداخل الروسى والحصول على «الصيت» العالمى عسى أن تثبت للرئيس ترامب ولحلفائها الأوروبيين جدارتها باستمرار تدفق مساعداتهم عليها وتحسين موقفها التفاوضي.
قبل يومين من بدء روسيا الاحتفال العالمى بذكرى انتصارها فى الحرب العالمية الثانية فى التاسع من شهر مايو الذى يحضره العديد من قادة وزعماء الدول الصديقة أعلنت أوكرانيا أنها لا تستطيع ضمان سلامة ضيوف موسكو الأجانب خلال الاحتفال!!
تهديد لا يجوز أن يصدر من دولة ولذلك قابلته روسيا على لسان نائب رئيس مجلس الأمن الروسى ميدفيديف بأن أوكرانيا لن تكون موجودة على ظهر الأرض فى اليوم التالي.
بعدها خلال زيارة الرئيس بوتين لأول مرة لمنطقة كورسك بعد طرد القوات الأوكرانية منها حلقت طائرات مسيرة أوكرانية قريبا من المروحية التى كان يستقلها وأحاطت بها فى عملية وصفت بأنها «محاولة اغتيال أحبطتها الطائرات الروسية».
وأخيرا جاءت عملية «شبكة العنكبوت» الأوكرانية المدوية والنوعية، والتى تم التخطيط لها ببراعة تختلف عن كل ما سبقها من مغامرات وكشفت بالفعل عن درس مهم لروسيا وهو: لا تنسى الداخل فى غمار اندفاعك العسكرى خارج حدودك.
ولاتزال الحرب دائرة.. والمفاوضات مستمرة والرهان على جلسة ثالثة فى أسطنبول قرب نهاية الشهر الحالى والرئيس التركى أردوغان الذى يرعى هذه المفاوضات يحلم بأن ينجح فى نهايتها بأن يجمع ترامب وبوتين وزيلنسكى على مائدة واحدة لتوقيع وضمان اتفاقية سلام تبدد المخاوف من حرب نووية عالمية.