يوم الجمعة الماضية كنت فى طريقى لمسجد الإمام الحسين للمشاركة فى توديع الأستاذ زكى مصطفى بعد أن جاءت محطته الأخيرة من رحاب الإمام حيث كان اختيار أسرته للمسجد لصلاة الجنازة عليه بعد رحلة حافلة من العمل والعطاء فى جميع إصدارات دار التحرير قضاها كمؤرخ فنى وكانت لأعماله سمة خاصة تجعلك تعيش حالة مختلفة وأنت تنتقل بين كلماته التى يحرص على اختيارها بعناية ليصنع منها تركيبة فريدة من الأعمال الصحفية التى تجبرك على قراءتها حتى النهاية .
رغم الحزن الذى أصابنى على فراق الأستاذ زكى إلا أن حالة روحانية كانت تسيطر على المشهد وقد جاء المصلون من كل صوب واتجاه للاستمتاع بالصلاة فى رحاب الإمام وأنا من ضمنهم وقد كانت هذه هى المرة الأولى التى أؤدى فيها صلاة الجمعة داخله الأمر الذى وجدت معه نفسى أدعو للمتوفى الذى قادنى وغيرى من الزملاء للحضور لهذا المكان المبارك .
لم ألبث كثيراً حتى بدأت الحالة التى كنت عليها تتبدد وأنا أجاهد من أجل شق الزحام فى محاولة للوصول لباب المسجد المخصص للنساء وما أن وصلت للبوابة التى أخبرونى بها إذ بها مغلقة وعلى مواصلة الدوران حول المسجد للعثور على بوابة آخرى مفتوحة وهو ما تحقق لى عند البوابة الثامنة وما أن حاولت دخول المسجد إلا ووجدت نفسى وكأنى وقعت فى المحظور بعد أن بدأت مجموعة من السيدات العاملات فى المسجد فى إصدار الأوامر لى بالخروج لعدم وجود مكان داخل المسجد الأمر الذى تحول لمشاجرات مع آخريات لإجبارهن على الخروج.
خرجت وأنا أجر أذيال الخيبة للبحث عن الساحة التى أشاروا لى بالتوجه إليها للحاق بالصلاة لأقابل إحدى الزميلات وما أن سألتها عن الزميلة سهى زكى ابنة الفقيد وما إذا كانت قد حضرت أم لم تحضر بعد حتى كان الخبر الذى وقع على كالصاعقة ..زميلتنا أبلغتنى أن سهى التى جاءت ومصيبة فراق والدها تفقدها عقلها وتخطف قلبها قد تعرضت لسرقة هاتفها داخل المسجد وذهبت لتحرير محضر بالواقعة .
لا حول ولا قوة إلا بالله ..هكذا وجدت نفسى أردد وأنا لا أدرك من يجرؤ على ارتكاب هذا الفعل فى بيت من بيوت الله ومن هذا الذى لم يبال بدموع الابنة على فراق والدها وقرر أن يزيدها وجعاً بفقد الهاتف الذى يحفظ ذكرياتها معه .
بصعوبة شديدة أوجدت لنفسى مساحة للصلاة فى الساحة وسط مجموعة من النساء لا أعرف لماذا جئن للصلاة وهن بعيدات كل البعد عن معانى الإسلام فتلك المرأة جاءت تنهر السيدة التى تجلس بجوارى لأنها سمحت لطفليها بالجلوس بجانبها وطالبتها بإفساح المكان لتجلس هى وعليها أن تجلس طفليها عليها دون أن تعطى لعقلها لحظة تفكر كيف لها أن تفعل ذلك وهى تصلى والغريب فى الأمر إنها استجابت لها لأجد طفلتها بعد لحظات تنام على قدمى ولم يلبث عقلى يتخلص من هذا المشهد حتى أركز فى الخطبة التى كانت حول عدم جواز تكفير المرء لغيره حتى كان مشهد هذه الفتاة التى بدأت تتوسل لإحدى السيدات التى تجلس على كرسى لأداء الصلاة وهى تناديها بأمى طالبة منها تحريك كرسيها ليكون على بلاط الساحة لتصلى هى على تلك الحصيرة التى نفترشها للصلاة إلا أن الأخيرة ترفض مرة وتتحجج آخرى والفتاة تقدم كل الحلول بلطف وأدب بلا جدوى فى اقناعها حتى جاء صوت فتاة آخرى وهى تصيح قائلة « فى ايه يا جماعة هو احنا جايين نصلى ولا نقرف بعض « لتنجح ثورتها فى تحريك كرسى هذه السيدة هى وسيدة آخرى فى الوقت الذى جلست مجموعة من السيدات على سور المسجد فى عكس اتجاه القبلة وصوت ثرثرتهن يرتفع على صوت الخطيب وفى الخلف حيث تنتهى صفوف السيدات وضع فاصل من البلاستيك لتبدأ صفوف الرجال ولا أعرف هل هذا جائز أم لا .
مرة آخرى أعاود إلتقاط كلمات الخطيب لاستعيد تركيزى إلا أن صوت هذه السيدة التى اخترقت صفوف المصليات لتبيع آية الكرسى بخمسة جنيهات كما كانت تنادى لتستقر قدميها فوق يدى التى كنت أحفظ بها ارتكازى على الأرض فسحقتها أقدام هذه السيدة .
بدأت الصلاة والخوف يتملكنى من فقد هاتفى تارة ومن فقد حذائى الذى وضعته أمامى وأنا أصلى مكرهة على ذلك تارة آخرى وقلبى يعتصر من الحزن بعد أن فقدت الصلاة معناها ولم يعد للخشوع وجود وأنا أسجد وقلبى يدق من أن أعاود الوقوف ويكون حذائى اختفى أو حقيبتى تعرضت للسرقة .
انتهت الصلاة وأنا أحمد الله أننى مازلت احتفظ بأشيائى لتبدأ معركة الخروج من المسجد حيث بدأ عدد كبير من الرجال يتوافد على باب الخروج ولا أعرف لهذا سبباً لأجد نفسى وصديقاتى فيما يشبه المعجنة وسط هذه الأعداد وكأننا نجدف عكس التيار حتى كان لنا الوصول لمنطقة آمنة .
ذهبت لصلاة الجمعة بالحسين بمشاعر آمنة وخرجت بمشاعر بائسة تسيطر على من هذا الانفلات الموجود بالمكان لم يبددها سوى هذه السيدة التى جاءت لنشر الحبوب فى ساحة المسجد لتهبط أسراب الحمام فى مشهد كان كفيلاً بإعادة الهدوء لنفسى المضطربة.. ودعت أستاذنا وقدمت واجب العزاء لأسرته وألقيت التحية على الحسين وأنا أدرك أن هذا المشهد العبثى حتماً يزعجه .