فى عالم متخَمةٌ منصاته بالآراء والانفعالات، أصبح من الصعب التمييز بين التعبير الصادق عن القضايا العادلة وبين الانخراط العاطفى غير المدروس الذى يُضعف القضية بدلًا من أن يخدمها. مثال ذلك ما شهدته مواقع التواصل الاجتماعى مؤخرًا من جدل حول ما سُمِّى بـ»قافلة الصمود» أو «المسيرة العالمية لغزة»، والتى جاءت تحت شعار كسر الحصار عن غزة والتضامن مع سكانها المحاصرين تحت القصف.. والحقيقة أنها كانت لها أغراض أخرى تماماً وهدفها بالأساس مصر ولم تعد غزة هى القضية، بل صارت مصر والموقف المصرى هما ما يتصدر المشهد. وفى كل مرة يتم تكرار هذا النمط من الحراك، نجد أنفسنا ندور فى الحلقة نفسها: شحن عاطفى، مظاهرات إلكترونية، تخوين متبادل، وفى النهاية لا أثر ملموس للقضية المركزية، سوى صورة مشوشة أمام الرأى العام العالمى والمحلى.
وإذا عدنا قليلًا إلى الوراء، يمكننا أن نتذكر موجات مماثلة من النقاشات، آخرها السجال حول منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية. بدأ الأمر بمنشور على فيسبوك، ثم تصاعدت حدة التفاعلات، فانخرط سياسيون ودبلوماسيون ومثقفون، وأصبحت المسألة أقل ارتباطًا بإصلاح الجامعة أو تطوير أدائها، وأكثر ارتباطًا بالمناوشات الافتراضية.. نحن أمام معضلة تعبير وتفكير ولا أحد يمكنه أن ينكر مأساة غزة، ولا أن يقلل من حجم القهر الذى يعيشه أهلها. ومن يتحدث عن العقلانية لا يُفترض به أن يُتهم بالجمود أو بالتواطؤ. إنما السؤال الحقيقى هنا: كيف نُعبّر عن تضامننا بطريقة تخدم الفلسطينيين ولا تُربك الداخل المصرى؟
القوافل الرمزية ليست خطيئة فى ذاتها، لكن عندما يُساء تنظيمها وتُطرح دون تنسيق أو إدراك لحساسيات المشهد الإقليمى والمحلى، تصبح عبئًا لا دعمًا.
إن أخطر ما نواجهه ليس فقط خذلان العالم لغزة، بل أيضًا خذلان العقل حين يغيب فى زحام المشاعر، وترك القضايا العادلة تُختزل فى ترندات، ثم تختفى كما ظهرت: بلا أثر.
وفى النهاية اقول، لست ضد التضامن، لكننا بحاجة ماسّة إلى استعادة الوعى وسط ضجيج السوشيال ميديا، والتمييز بين الفعل الرمزى المؤثر وبين الفوضى الموجهة. القضايا الكبرى لا تُدار بالهاشتاجات، ولا تُنتصر لها بالمزايدات، بل تُخدم بالتخطيط، والاتزان، والعمل الجاد.