دائنة لأغلب دول العالم فى المجال التجارى.. اقتحمت مجالات الفضاء والاتصالات والبحث العلمى
تحويل القوة البشرية إلى أقوى عناصر الإنتاج
وضع سياسة تنموية مستدامة لا تتغير بتغير الحكومات
أصبحت الصين مارداً اقتصادياً دولياً يتبوأ الصدارة فى حركة التجارة العالمية، وتتحسب له كافة دول العالم الأول والثانى والثالث. ولا يوجد منزل واحد على كوكب الأرض الا ويستخدم منتجات صنعت فى الصين فى كافة مناحى الحياة. وقد بلغت الصادرات الصينية من المنتجات المصنعة فقط – والتى تعد عماد الصادرات الصينية – حوالى 3.2 تريليار دولار فى عام 21.. فمدينة ايوو الصينية، وهى مدينة صغيرة فى الجنوب، تمتلك أكبر مول تجارى للعب الأطفال فى العالم وهى تسهم بحوالى 30٪ من منتجات لعب الأطفال فى السوق العالمية. كما تعد مدينة سويتو الصينية عاصمة الأحجار فى العالم.. رغم انها تعتمد على استيراد أغلب الأحجار من دول العالم المختلفة ثم تقوم بتقطيعها وتشذيبها ثم إعادة تصديرها.
ظلت الصين منذ نشأتها منقسمة على نفسها، لكنها طوال تاريخها لم تشهد حركة وحدة حقيقية وإنما ظلت مجموعة من الممالك المتحاربة حتى عام 1912 حين قامت الثورة الاولى التى أطاحت بالنظام الامبراطورى وأعلنت قيام أول جمهورية. إلا أنها آثرت الابقاء على آخر الأباطرة الصينيين حبيس المدينة المحرمة فى مدينة بكين ومنع تماماً من مغادرتها.
عادت الحروب بين الممالك مرة أخرى حتى تمكنت قوات ماو دزى تونج الشيوعية فى عام 49 من دحر قوات تشن كاى تشيك الذى هرب إلى جزيرة تايوان وأعلن قيام جمهورية الصين هناك، بينما أعلن ماو قيام جمهورية الصين الشعبية على باقى الأراضى الصينية. إلا أن المجتمع الدولى اعترف بنظام جمهورية الصين فقط باعتباره ممثل الشعب الصيني.
كان تعداد الصين آنذاك حوالى 550 مليون نسمة، الجهل والأمية منتشرة بين المواطنين، يستشرى الفساد فى كافة اركان الدولة واغلب موظفى الدولة مرتشين، الفقر المدقع هو المظهر المعتاد. لم يكن توجد طبقة متوسطة.. كان الشعب الصينى شعبا معدما يحكمه مجموعة من لوردات الحروب الساعين إلى المزيد من الثراء. لا يوجد أى قاعدة صناعية فى البلاد واعتمدت تماماً على الإنتاج الزراعي.
ادرك الحزب الشيوعى ان قوة الصين لا تكمن فى مساحتها التى تبلغ 9.5 مليون كم2، ولا مزارعها أو غاباتها أو صحاريها أو شواطئها، بل ان قوتها تكمن فى تعدادها البشري. فقرر الحزب تحويل القوة البشرية من إشكالية معوقة إلى ملايين المعاول لبناء البلاد.. بدءاً من البنية الأساسية وصولاً إلى قاعدة إنتاجية بدائية. فبدأ فى توفير فرص العمل حتى غطى أكثر من 78 ٪ من سوق القوى العاملة فى البلاد مدعومة بالسكن والتعليم والعلاج والغذاء. وبنت الدولة مئات آلاف من المساكن لعمالتها، يتكون المنزل من حجرة واحدة هى حجرة النوم والمعيشة فى آن واحد ويسمح فى ركن منها وضع بوتاجاز صغير، اما الحمامات فهى مشتركة لكل دور. وما تزال أعداد كبيرة من هذه المساكن قائمة حتى الآن. وبنفس المفهوم بنت المدارس والمستشفيات وصالات الطعام الكبيرة. ثم اتجه الحزب إلى الاهتمام بتطوير تلك القاعدة بأطلاق حريات القطاع الخاص الذى بدأ إنتاجه من خلال المصانع الصغيرة والورش بتقليد المنتجات العالمية. ثم انتقل إلى تطوير الإنتاج من خلال طرح المنتج الصينى الكامل عالى الجودة. كما تأسست الشركات الضخمة لتطوير البنية الأساسية فى الصين من مساكن وطرق ومدارس.. وغيرهم والتى أصبحت فيما بعد تعمل خارج إطار الأراضى الصينية كأحد أدوات الدبلوماسية الصينية من خلال تنفيذ مشروعات تنموية صينية فى أنحاء العالم المتفرقة. وفى نهاية السبعينيات قررت تطبيق سياسة الطفل الواحد فقط لكل اسرة للتحكم فى الزيادة السكانية. والتزم الحزب الشيوعى بالتطبيق المطلق لسياسة المساواة بين الرجل والمرأة.. حتى ان عنابر العمال كانت عنابر مختلطة لا يوجد فيها أى فصل للنوع. وأصبحت كلمة التعداد هى الإجابة المنطقية لكافة الألغاز التى يشهدها العالم فى الصين.. وعلى ذلك شجعت الدولة على اتباع مجموعة من العادات الاجتماعية التى تخدم أهدافها …على نحو الاهتمام بالغذاء فى مواعيده مهما كانت المشغوليات، الاهتمام بأكل الخضر والفاكهة والأسماك والاقلال من اللحوم.. الابتعاد عن السكريات.. الحرص على الالتزام بالوزن المثالي.. شرب الشاى الأخضر بشكل مستمر.. الحرص على الاستحمام يومياً.. الاهتمام بالتريض بشكل يومى وممارسة التمارين الرياضية فى أى صورة كانت. حتى أصبحت هذه المظاهر أساسية ومعتادة فى حياة المواطن اليومية. وبذلك تفادت الدولة التعرض لتحديات صحية قد تهدد الملايين، وتتسبب فى انفاق المليارات من الدولارات. وفى نفس الوقت تم تنظيم حركة المواطنين بشكل دقيق لتجنب الفوضى والارتباك. وضربت الدولة بكل قسوة على أى مظاهر للفساد، وكان جزاء أى موظف عمومى تثبت إدانته بالفساد ان يقوم بالاعتراف بجرمه أمام الحزب الشيوعى ثم ينتقل إلى استاد العمال فى بكين للاعدام.
ثم تولى دنج شياو بنج مقاليد الحزب الشيوعى فى 1978ليبدأ فى سياسة الانفتاح. فأطلقت الدولة حرية التملك للشعب الصيني، تطور قطاع الأعمال لتتنافس الشركات الحكومية فيما بينها «يوجد فى الصين مثلاً 45 شركة طيران تجارى مركزى ودولى وإقليمى ومحلى و68 محطة إرسال تليفزيونى مركزى واقليمى ومحلي»، وسمح باستقدام العقول الأجنبية التى تحتاج لها الصين، واطلق حرية خروج الصينيين إلى العالم الخارجى بشكل تدريجي.. بل وان كافة دول العالم سعت إلى تعزيز تجارتها وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين، حتى ان العديد منها حرصت على إعداد كوادرها لتتعلم اللغة الصينية فى إطار حرصها على تعزيز علاقاتها مع الصين.
توالت القيادات الصينية على رأس السلطة «الحزب الشيوعي» لتستكمل خطة تطوير الدولة التى وضعها الحزب ويراقب تنفيذها، بالرغم من محاربة الغرب لعقيدة الحكم فى الصين وسقوط العديد من قلاع الشيوعية فى العالم لتبتكر الصين منهجها السياسى الخاص «نظام شيوعى بخصائص صينية».
اليوم أصبحت الصين بتعداد 1.5 مليار نسمة موزعة على 33 إقليماً «بما فى ذلك هونج كونج وماكاو» واطلقت سياسة الطفل الثانى فى عام 2016، هى واحدة من الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن وتمتلك حق الفيتو لمنع اصدار أى قرارات قد تتعارض مع مصالحها. كما إنها أصبحت المورد الأول للمنتجات المصنعة فى العالم.
بلغ احتياطيها من النقد الأجنبى 3.2 تريليون دولار.
أصبح للصين اليوم منتجاتها العالمية على نحو هواوى للاتصالات، هاير للأجهزة، على بابا للتسويق الإلكتروني، منصة تيك توك.. وتسابقت الشركات العالمية على استغلال سوق العمالة الرخيصة فى الصين لتصنيع منتجاتها على نحو شركة آبل الأمريكية، شركات السيارات خاصة السيارات الكهربائية مثل تسلا، غزوا مجال الأجهزة الإلكترونية والكمبيوتر حتى إنها تفوقت على اليابان نفسها – التى كانت رائدة فى هذا المجال.. بل ومع تزايد رواتب العمالة فى الصين التى وصلت حالياًً إلى 1000 – 1500 دولار شهرياً، اتجهت الصين إلى نقل مصانعها خارج حدودها لتوفير أسعار عمالة أقل تمكن المنتج الصينى من الاستمرار فى التنافس على الساحة العالمية.
اليوم تبلغ العمالة الحكومية الصينية حوالى 57 مليون نسمة بعد ان نجحت فى ميكنة كافة خدماتها. يمتلك القطاع الصينى الخاص 70 ٪ من إجمالى الثروة فى البلاد ويوفر 80 ٪ من فرص عمل العمالة الصينية، بعد ان كانت الدولة هى التى تمتلك 70 ٪ من الثروة فى مرحلة السبعينيات. يمثل قطاع الخدمات أكثر القطاعات توظيفا فى البلاد، بينما يعمل أكثر من 34 ٪ لدى أنفسهم.
تظل كلمة السر فى الصين هى «التعداد السكاني» الذى يفسر أى غرائب قد تشهدها فى الصين.
فمثلا هذا التعداد أتاح للصين تشكيل أكبر جيش فى العالم يبلغ تعداده 3.5 مليون فرد.. يشارك فيه الذكور والإناث على السواء.
من ناحية الغذاء هناك مثل صينى مشهور «الصينى يأكل كل ما يطير ما عدا الطائرات، وكل ما يمشى على الأرض ما عدا الطاولات والكراسي، وكل ما هو فى البحر ما عدا المراكب».. فى إشارة واضحة أن الدولة تستخدم كل ما هو متاح من غذاء لاطعام هذا التعداد الهائل.. بالتالى تجد فى الصين أنواعاً غير معتادة من الخضر والفاكهة، قامت باستحداث بعضها وخاصة مما لم يهتم العالم باستغلاله، حتى النباتات البحرية نجحت فى تطويعها للاستهلاك البشري، بل ونجحت فى تصدير وتعريف العالم بها.
غير صحيح ما يتردد من ان الصين تأكل لحوم الكلاب والقطط. هذا أمر غير شائع، لأنه كما ذكرنا النمط الاستهلاكى للمواطن الصينى لا يعتمد على اللحوم، كما ان الدولة استبدلت استهلاك اللحوم البقرى باهظة الثمن بمزارع الخنازير.
اليوم أصبحت الصين دائنة لأغلب دول العالم فى المجال التجاري. بلغ العجز التجارى مع الولايات المتحدة أكثر من 380 مليار دولار لصالح الصين وفق احصاءات 2021، ولم ينجح وباء الكورونا فى التأثير على هذا العجز. ونجح رجال الأعمال والشركات الصينية فى غزو الأسواق العالمية خاصة الغربية بل وتأسيس مشروعات على أراضيها. زادت الاستثمارات الصينية فى أوروبا من 840 مليون دولار فى عام 2008 إلى 42 مليار دولار فى عام 2016.
اقتحمت الصين مجالات الفضاء والاتصالات والبحث العلمي. وأصبحت تقدم للعالم أبحاثاً مؤثرة لخدمة المجتمع الإنساني. ولا ننسى مثلا ان الصين قدمت واحداً من الامصال الأربعة التى واجه بها العالم وباء الكورونا.
يمكن إيجاز أسباب نجاح حركة تطور الصين فيما يلي:
1 – التطبيق المطلق للقانون، بلا استثناءات، والسيادة المطلقة لتنفيذه والضرب بقسوة على منتهكيه.
2 – وضع سياسة تنموية مستدامة لا تتغير بتغير الحكومات ويراقب الحزب تنفيذها.
3 – اتخاذ كافة التدابير لتطوير إمكانات الشعب سواء بمحاربة الأمية أو توفير الأمن والغذاء أو تطبيق المناهج الصحية فى الحياة اليومية للمواطن.
4 – تحويل القوة البشرية إلى أقوى عناصر الإنتاج مع الارتقاء بقيمة العمل والاخلاص فى آدائه
لكن مع هذا التطور الهائل ومع إصرار الصين على انتهاج العقيدة الشيوعية فى الحكم كان من الطبيعى ان تدخل مع الغرب فى صراع محتدم اتخذ أشكالاً عديدة. إلا أن أخطر هذه الأشكال ما تتعرض له الصين حالياً من تغييرات فى الهوية الوطنية والثقافية للبلاد خاصة بالنسبة لقطاع الشباب. وهو ما سنلقى الضوء عليه فى مقالنا القادم.