لقد أثنى الله عز وجل على عباده القليل، ومدحهم فى كتابه الكريم وآيات أخرى يذمّ فيها الكثير؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: «عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين « فهناك شعور ينتاب الإنسان المؤمن، بأن يشعُر أنه فى زمن عمّ فيه الظلم، وانتشرت فيه الفواحش، وانتشرت فيه الفتاوى، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، يشعُر فيه المؤمن بالحيرة لكثرة الظالمين وكثرة الفاسدين وتوسوس له نفسه بأنه من المُحال أن كلّ هؤلاء الناس على خِلاف الحق!؟ فالمستقيمون قِلة؛ فاليوم لو أُتيحَ لإنسان أن يحصل على مال بغير حق ورفضه لأُتهم فى عقله، لو لم تتبع الباطل لاتهمت بالجنون، عندما تتقى الله فى عملك يتهمك البعض بالغباء ؛ وعندما تأبى اتباع الباطل وتأبى النفاق لابتعد عنك البعض ؛ فأكثر الناس لا يبالون أكانَ كسبهم حلالاً أم حراماً ؟أكثرُ الناس لا يبالون أكانت علاقاتهم مع بعضهم مشروعةً أو غيرَ مشروعة؟ أكثرُ الناس لا يبالون إذا كانت أعمالهم أساسها طاعة أو معصية؟ !فمن يتمسك بدينه وبمبادئه يشعر بالغربة حتى وهو بين أقرب الناس إليه أهله! وضرب لنا الله مثلًا امرأة لوط وابن نوح وامرأة فرعون.
فالعبرة ليست فى كثرة العدد، فليس بشرط حينما يجتمع الكثير على أمر ما أنهم على حق، بل غالبًا هم أقرب للباطل! فإذا وجدتَ نفسكَ فى عصرٍ ما مع القِلة الطائعة بعيداً عن الكثرة العاصية، مع القِلة المتبّعة للحق بعيداً عن الكثرة التائهة والضالة المُتبعة للباطل، فأنت من عباد الله القليل الذين أثنى عليهم الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان فى هذا الزمان وجد الراحة فى البعد عن شرائر الناس وعدم الثقة فيهم، وأصبح البعض يحذر الناس وهذا ليس بعيب؛ بل الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام علمنّا ذلك، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه، وهو بين الناس إذا تكلَّم إما أن يرقى، وإما أن يهبط، كان عليه الصلاة والسلام يحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطويَ عن أحد منهم بِشْره، وخلقه، فكل منا لا يعرف الآخر إلا فى المواقف والأفعال غير ذلك يجب أن تأخذ الحيطة، ولا تثق فى أحدهم إلا بعد مرور مواقف وأفعال والتعرض لخلاف وصدام.
كذلك الحال بالنسبة للعفو فالله سبحانه وتعالى قال: « وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ»، الكثير يردد هذه الآية فى الأوقات التى يشعر فيها البعض بالرغبة فى أخذ حقه وعدم مسامحة من ظلمه ولكن القليل فقط من يعلم متى يكون العفو عن الناس؟ فالعفو عن الناس إذا كان عفوك مُصلحًا لهم أما إذا كان عفوك يشجعهم على متابعة الأذى فلا تعفو عنهم! رجل وقع بين يدى رسول الله، بكى، وتباكى، بكى على بناته الصغار، فرق إليه النبى، وعفا عنه، فعاد إلى ما كان عليه من التنكيل بأصحاب رسول الله، وهجائهم، ووقع مرةً ثانية، وأعاد قصته مرةً ثانية، توسل إليه، واسترق قلبه، وذكر له بناته، قال: لا أعفو عنك لئلا تقول: خدعت محمدًا مرتين! تعفو إذا غلب على ظنك أن عفوك على هذا الإنسان سيصلحه، أما إذا عفوت عنه فتطاول، واجترّأ على الحق، فينبغى أن تكون حازمًا معه.