كلنا يعلم مدى قسوة الواقع فى الأرض المحتلة «فلسطين»؛ ومع ذلك علينا أن نعترف أن ثمة نظرة مختلفة الآن لهذا الواقع الأليم فى العالم، وليس أدل على ذلك من إقدام المحكمة العليا التابعة للأمم المتحدة فى قضية هى الأولى من نوعها، على دراسة طبيعة سيطرة إسرائيل على الأراضى الفلسطينية المحتلة، تسعى المحكمة إلى طرح رأيها بشأن شرعية السياسات الإسرائيلية فى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية المحتلة منذ عام 1967 بعد سيطرة القوات الإسرائيلية على هذه المناطق.. وتشارك 52 دولة فى الإجراءات من ضمنها مصر، كلها تدين سياسات الاحتلال والاستيطان والفصل العنصرى الممنهج ضد الفلسطينيين، ثمة بالفعل كسر للصمت الرهيب الذى جثم على ضمير العالم لعقود، فوقوف الاحتلال الإسرائيلى أمام محكمة العدل الدولية سابقة تفتح الباب لعرض وشرح جرائمه وحرب الإبادة التى يشنها ضد الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم وطردهم من أراضيهم، وهذه الخطوة من قبل المحكمة بجانب كونها توثيقاً لجرائم الاحتلال فهى فى نفس الوقت تكشف للعالم من مع هذه الجرائم ويدعمها و من ضدها وهنا سيظهر الانحياز الأمريكى الفج المتواصل لإسرائيل، بما يضع الولايات المتحدة فى خانة الشريك لإسرائيل فى جرائمها، فبجانب الجسر الموصول من السلاح الذى تمرره واشنطن لإسرائيل لتقتل به الفلسطينيين فهى تعرقل أى قرار أممى من شأنه أن يوقف إسرائيل عن جرائمها، وكان آخرها استخدام الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» ضد مشروع قرار جزائرى فى مجلس الأمن يدعو إلى وقف فورى لإطلاق النار فى غزة وإطلاق سراح جميع الرهائن المحتجزين لدى حماس، وجدت إدارة بايدن نفسها وحيدة فى التصويت، حيث صوتت 13 دولة، بمن فى ذلك حلفاء مثل فرنسا واليابان، لصالح القرار وامتنعت بريطانيا عن التصويت.
هناك بالفعل نبرة جديدة فى العالم يبدو أن لديها استعداداً للدفاع عن الحق و نصرته والتحرك خلفه فى كل المحافل الدولية وهذا الذى نقول إنه كسر الصمت الكبير تجاه القضية، فجنوب أفريقيا على سبيل المثال وقفت وراء قضية منفصلة أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية وفى نهاية الشهر الماضي، أصدرت المحكمة تدابير مؤقتة تدعو إسرائيل إلى كبح هجومها الإجرامى على غزة، وتقول جنوب أفريقيا الآن أمام المحكمة إن إسرائيل تمارس ما هو أكثر من الفصل العنصرى مقارنة بما تم تحملته جنوب أفريقيا لعقود، وجيبوتى قالت إن عقودًا من الاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية كان لها تأثير التمييز المنهجى ضد السكان الفلسطينيين لصالح السكان اليهود الذين يعيشون فى المستوطنات.
مصر كعادتها بحكم التاريخ و الجغرافيا لم تتخل يوما عن دورها ووقفت وقفة للتاريخ، ممثلة مصر أمام المحكمة العليا الدكتورة ياسمين موسي، المستشارة القانونية بمكتب وزير الخارجية، قدمت مرافعة زلزلت أركان المحكمة أكدت على عدم شرعية ممارسات الاحتلال الإسرائيلى الممنهجة ضد الشعب الفلسطينى وحقوقه المشروعة على مدى 75 عاما، وقالت: إن الاحتلال الإسرائيلى المطول غير قانوني، وباعتباره عملاً دولياً غير مشروع، يجب وضع حد له على الفور.. وانتقدت موسى على وجه التحديد المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية، قائلة إنها تقوض إمكانية التوصل إلى حل الدولتين، وفيما يتعلق بغزة، اتهمت إسرائيل بمواصلة سياساتها للطرد القسرى الجماعى للمدنيين الفلسطينيين، بسبب التهجير الجماعى فى القطاع، المرافعة المصرية والمذكرات أكدت اختصاص المحكمة بمنح الرأى الاستشارى وتناولت الآثار القانونية للممارسات الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
أعتقد أنه بات فى حكم الاستحالة تجاهل مسئولية الأطراف الدولية عن تغيير الوضع الراهن فى غزة، بعد أن تجاوز ضحايا العدوان 29 ألفا، ونقل وتهجير ما يقرب من مليونى فلسطينى قسرا، فى انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي، وفى ظل عجز مجلس الأمن الدولى عن وقف إطلاق النار، ولم يعد خافيا أيضا أن الوضع الكارثى فى الضفة الغربية، من خلال التهجير والقتل وتوسيع الاستيطان وإجرام المستوطنين، وهدم المنازل، بات يمثل انتهاكا لأسس الشرعية الدولية ويقوض فرص حل الدولتين.
الآن إسرائيل انكشفت وصارت على خلاف مع النظام الدولى برمته باستثناء الولايات المتحدة التى تحميها، وفيما يخص الأمم المتحدة فقد كان موقف الأمين العام أنطونيو جوتيريش معبرا عن حنق المنظمة تجاه الممارسات الإسرائيلية، وغضب المسئولون الإسرائيليون من تصريح جوتيرش بأن هجوم حماس لم يحدث من فراغ، والآن تأتى الإجراءات فى لاهاى خلال الأيام القليلة الماضية لتدعم ما كان يستشهد به جوتيريش، وتدق ناقوس الخطر تجاه حسب هذا السياق المأساوى الأعمق.
إن قرع طبول الخطاب الدولى الكاشف لجرائم إسرائيل فى الأرض المحتلة حتى وإن كان متأخرا؛ فهو بلاشك نصرة للقانون الدولى الإنسانى وكشف للنوايا الخبيثة لدى إسرائيل برفض أى حديث عن دولة فلسطينية، أوحقوق سياسية متساوية، الآن هناك صيغة دولية فيها شبه إجماع على أن ما تفعله وما تنتوى إسرائيل فعله سوف لا يمر، فالليل ينجلى والقيد ينكسر.