حتى نهاية الألفية الثانية كانت مصادر الاستماع إلى الأغانى محدودة ومقتصرة على أجهزة الراديو والإسطوانات وأشرطة الكاسيت وكانت إذاعة أم كلثوم هى المحطة الوحيدة المتخصصة للأغانى ..وحده الدكتور يوسف شوقى الذى كان فى ذلك الوقت يقوم بدور «جوجل» محرك البحث الأشهر فى المنظومة الإلكترونية من خلال برنامجه الإذاعى الإسبوعى «مالا يطلبه المستمعون» حيث كان يغوص فى بحر الأغانى ليصطاد الأغانى القديمة التى ربما لم يستمع لها أحد من قبل أو يعرف عنها شيئا وكان فى برنامجه يقدم نبذة مختصرة عن كل أغنية..تاريخها ومؤلفها وملحنها ومن شدا بها قبل أن يتحفنا بسماعها.
ولمن لا يعرف الدكتور يوسف شوقى هو أحد أشهر مؤرخى الموسيقى فى مصر والوطن العربى وله العديد من المؤلفات الموسيقية كما قام بعمل الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام العربية القديمة ..فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى التقيت به فى أحد استديوهات ماسبيرو عقب تسجيل إحدى حلقات برنامجه الشهير وسألته عن سبب أزمة الأغنية العربية بعد رحيل عمالقة الغناء كوكب الشرق أم كلثوم وملك العود فريد الأطرش والعندليب عبدالحليم حافظ فقال لى الأزمة ليست أزمة كلمات أو ألحان أو أصوات وإنما أزمة مجتمع بعد أن دخلت مصر فى عصر الانفتاح حيث تغيرت موازين الحياة وتغيرت معها موازين الأغنية وتغيرت الأذواق أيضا.
شاءت الأقدار أن ألتقى مرة ثانية الدكتور يوسف شوقى فى العاصمة العمانية مسقط فى نهاية تسعينيات القرن الماضى حيث كان يقيم هناك بتكليف من الحكومة العمانية لتأسيس مركز عمان للموسيقى التقليدية وقد كرمه سلطان عمان الراحل قابوس بن سعيد على هذا العمل ومات ودفن هناك بناء على وصيته..رحم الله «جوجل» بتاع زمان.
عبدالوهاب محمد يكسب
يتميز الشاعر الغنائى الراحل عبدالوهاب محمد عن دون شعراء أغانى كوكب الشرق أم كلثوم بأنه الشاعر الوحيد الذى حظيت كلمات أغانيه بألحان أربعة من عمالقة تلحين أغانى الست «ثومة» وكان أول تعاون مع الموسيقار بليغ حمدى فى أغنية «حب إيه» وتكرر هذا التعاون فى أكثر من أغنية كما لحن له الموسيقار رياض السنباطى أغنية «حسيبك للزمن» ولحن له موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب أغنية «فكروني».. أما حكايته مع الموسيقار محمد الموجى فهو الوحيد الذى كانت كلماته مصدر إلهام لتلحين الأغنيتين العاطفتين الوحيدتين اللتين لحنهما الموجى لأم كلثوم وهما «للصبر حدود» و»اسأل روحك».
أغنيات لن تموت
هناك الكثير من الأغانى لن تموت مهما طال عليها الزمن طالما بقيت هناك حياة مثل الأغانى الوطنية وأغانى العيد وأشهرها «ياليلة العيد أنستينا» لأم كلثوم وأغانى شهر رمضان والربيع وأغنية «ست الحبايب» لكروان الشرق فايزة أحمد التى لايمر عيد للأم دون سماعها ..كل هذه الأغانى تعبر عن مناسبات عامة لكن هناك أغنيات تعبر عن مناسبات خاصة لن تندثر أيضا مثل أغانى الأفراح «يادبلة الخطوبة» لصوت مصر شادية و»ماتزوقينى ياماما» لمها صبرى وأغانى عيد الميلاد وأشهرها «يالا حالا بالا هنوا أبو الفصاد» وهى الأغنية الأكثر ترديدا فى أعياد الميلاد ويتغنى بها الأطفال والكبار دون أن يعرفون أصلها وهى عبارة عن أوبريت تم تقديمه فى أوائل الستينات من القرن الماضى تمثيل فؤاد المهندس والإذاعية أمال فهمى وإبراهيم جكله وروحية سليمان من إخراج الإذاعى الكبير محمد محمود شعبان «بابا شارو» وتأليف وتلحين إبراهيم جكله وهو ممثل ومنولوجست ولد فى محافظة قنا وعاش فى الاسكندرية وهو من أصل نوبى بدأ مشواره فى السينما فى أدوار ثانوية مثل البواب ، الطباخ، سائق التاكسي، المجنون ومن أشهر أدواره شخصية «نيرون» فى اسكتش «المجانين» فى فيلم «المليونير» لإسماعيل يس والغريب أن هذا الفنان لم يحظى بالشهرة التى حظيت بها أغنيته.
وإذا كانت أغلب أغانى عيد الميلاد تبعث على البهجة والفرح والسرور فهناك أغنية وحيدة تعبر عن الحزن واليأس والحسرة وهى قصيدة «يوم بلا غد» التى كتبها عمنا وأستاذنا كامل الشناوى لينعى فيها شبابه الذى ضاع هباء وتقول كلماتها عدت يايوم مولدي.. عدت ياأيها الشقي..الصبا ضاع من يدي.. وغزا الشيب مفرقي.. ليت يايوم مولدى كنت يوما بلا غد وقد قال الموسيقار فريد الأطرش قبل أن يغنيها لأول مرة أنه اختار هذه القصيدة لأنها تعبر عن حالته النفسية.
نبتدى منين الحكاية
رغم عشقى للأغانى لم أحظ بحضور حفلات عمالقة الأغنية سوى مرة واحدة وبالصدفة..ربما بسبب رحيل أم كلثوم وفريد وحليم وأنا مازلت طالبا جامعيا أحصل على مصروفى من والدى رحمة الله عليه لأنه بلغة هذا الزمان كان من العيب أن أطلب مبلغا كبيرا لمثل هذا الغرض عكس مايحدث فى زماننا هذا حيث نشاهد طلبة وطالبات ربما مازالوا فى التعليم الإعدادى والثانوى يحضرون حفلات هذه الأيام بمفردهم ويدفعون مبالغ طائلة ليستمتعوا بأغنيات نجمهم المفضل.. المهم فى عام 1975 حضر إلى منزلى صديق من أصدقاء الطفولة ودعانى لحضور حفل للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ ومعه تذكرتين للحفل حصل عليهما من الدكتور مجدى بولس عازف آلة الشيلو بالفرقة الماسية الذى كان يقوم بتدريسه فى الكلية.. لم أنم فى هذا اليوم من سعادتى فى انتظار مجيئ اليوم التالى موعد الحفل الذى أقيم فى نادى الترسانة ..ارتديت أفضل ماعندى من ثياب ونجحت فى الحصول على جنيه من والدتى رحمة الله عليها وذهبت وصديقى إلى الحفل منتشيا وكانت أغنية الحفل «نبتدى منين الحكاية» كلمات محمد حمزة وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب ولأن الحفل كان فى الهواء الطلق وفى ليلة قمرية من ليالى الصيف كان حليم يرفع أصبعه إلى السماء فى اتجاه القمر ويردد ويكرر وهو يبتسم «حلو القمر حلو» ثم يكمل الأغنية «بس أحلى من القمر لو نخلى عمرنا يوم ندوق الحب فيه»..المهم بعد انتهاء الحفل اكتشفت وصديقى أن ماتبقى معنا من أموال لايكفى لركوب التاكسى حيث كانت الساعة تقترب من الثالثة صباحا ولاتوجد مواصلات عامة فقطعنا المسافة من ميت عقبة إلى حى السيدة زينب حيث نقيم سيرا على الأقدام ونحن فى قمة السعادة.
هانى شاكر فى كلية الإعلام
فى عام 1977 قرر اتحاد الطلبة بكلية الإعلام جامعة القاهرة إحياء حفل للفنان هانى شاكر فى المدرج الرئيسى لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية حيث كنا ضيوفاً على هذا المبنى نتلقى فيه محاضرتنا بعد انتهاء طلبة الاقتصاد من تلقى دروسهم ..المهم هذا الحفل كان مقررا له أول أبريل من هذا العام ولكن شاءت الأقدار أن يفارق عبدالحليم حافظ الحياة يوم 30 مارس قبل إحياء الحفل بيومين فتقرر تأجيله لبضعة أيام ولم يمر سوى أقل من أسبوع وحضر هانى شاكر ومعه الفرقة الموسيقية ليفاجأ بمئات الطلبة والطالبات يرفعون صور عبدالحليم حافظ وكاد الحفل أن يفشل لولا ذكاء هانى شاكر الذى استطاع أن يحتوى الحضور بكلمات نعى فيها حليم معربا عن حزنه الكبير لرحيله وقرر غناء أغنية من أغانى الراحل فنال التصفيق الحاد من الحضور الذين امتلأ بهم المدرج عن آخره وكان عدد الواقفين يزيد عن عدد الجالسين حيث حرص طلاب وطالبات الكليات الأخرى على حضور هذا الحفل الذى تحول من الفشل إلى النجاح منقطع النظير .. هكذا كان الحال فى الكليات الحكومية التى كان فى مقدورها إحياء حفل لأحد نجوم الأغنية بأسعار فى متناول الطلاب أما اليوم أصبح هذا الأمر يقتصر على الجامعات والكليات الخاصة نظرا للمبالغ المبالغ فيها لمثل هذه الحفلات والتى يصل سعر تذكرة الصف الأول إلى 30 ألف جنيه..الله يرحم أيام زمان وفن زمان.