بعد ٩٠ عامًا.. بدوى يحن لتفاصيل مارى هاسكل مع جبران
فى كل مرة يقع بين يديه كتابا لجبران خليل جبران، يحسُّ ذلك الوجيب، كأنما قلبه كان شاهداً على تفاصيل العلاقة بين مارى هاسكل وجبران، وكانت ذكراهما تستبد فى داخله وتخضّه، كأنها ذكرى تخصّه هو، لا لشخصين عاشا فى زمن غير زمنه، ليظّل الشاعر والباحث اللبنانى سليم بدوى مدفوعاً بالرغبة فى الكشف عن واحدةٍ من أعظم العلاقات الإنسانية لامرأة كان «حبّها زيتاً لسراج جبران».
ظلَّت تلك الفكرة تدور فى فلك بدوي، لتعرف، أخيراً، الطريق فى كتاب يستند إلى وثائق تتناول حياة هاسكل وجبران، تحت عنوان: «هى والنَّبي»، صدر حديثاً عن دار الهالة للنشر والتوزيع، ويشير العنوان إلى نفسه دون مقدمات، فالمقصود بـ»هي» أى «مارى هاسكل»، و»النَّبي» أى «جبران خليل جبران»، وبهذا، فقد وضع المؤلف السيدة الأمريكية هاسكل فى دائرة الضوء بعد أن ظلّت أكثر من 90 عاماً فى الظلّ.
يلج بدوى عوالم هاسكل وجبران، دون مقدمات، ويضع القارئ فى مشهد سينمائي، إذ تبدأ أولى المشاهد بعد سنوات من رحيل جبران خليل جبران، حينما «شرعت مارى بالاستماع إلى الترانزيستور، فتلقفت كلام المعلّق ناقلاً بدقّة مجريات حفل تنصيب الرئيس الأمريكى جون كيندي، ولكن، ما كانت تتشوّق إلى سماعه، كان قسَم الرئيس المنتخب وخطابه»، صفحة 13.
يضيف المشهد: «ظلّت مارى تتحوّل من حنين خيالها إلى جفاء حاضرها حتى شدّ انتباهها تبدّل نبرة صوت الرئيس، وإذ بجون كينيدى يقول: «ولذلك، أيها المواطنون الأمريكيون الأعزاء، لا تسألوا ماذا يمكن أن يفعله بلدكم من أجلكم، بل اسألوا ما الذى يمكنكم أن تفعلوه أنتم لبلدكم»، وما إن انتهت هذه العبارة وعلا التصفيق على أدراج ومحيط الكابيتول بواشنطن، حتى انتفضت مارى على كرسيها فى سافانا مكررة بصوتها الخافت العبارة، وبدأت تسأل نفسها «أين سمعت هذه العبارة من قبل؟. وظلّت تسائل ذاكرتها وتغربل ما علق بها إلى أن صرخت قائلة: «إنها لخليل، خليلى أنا». صفحة 14.
كان للكلمات التى ألقاها كينيدى وقع كبير بمارى هاسكل، إذ تعيدها إلى تلك الذكرى الخامدة فى دواخلها، ومن هذه البداية التى أرادها الكاتب أن تقص حكاية سنوات من الأحداث؛ تستعيد السيدة الأمريكية شريط ذكرياتها مع جبران خليل جبران.
يبنى سليم بدوى فكرة العمل الأدبى على مشاهد سينمائية تُلقى الضوء على أبرز محطات هاسكل وجبران، ويعمد المؤلف على تقسيم الكتاب إلى 12 قسماً، هى فى أساسها مشاهد ممتعة، بدءاً من «المفاجأة» وهى سماع مارى هاسكل خطاب كيندى الذى يقتبس فيه مقولة لجبران، ومروراً بـ»اللقاء»، و»بين الأرض والسماء».. وصولاً إلى «الوصية» حيث وصية جبران وهاسكل.
فى لقاء مع «همزة وصل»، يوصف الشاعر والباحث اللبنانى سليم بدوى علاقة هاسكل بجبران، أن الفضل فى شهرة جبران العالمية، بخاصة حينما انتقل فى الكتابة من اللغة العربية إلى الإنجليزية؛ يعود إلى السيدة الأمريكية مارى هاسكل، التى ارتبط فى علاقة معها على مدى 27 عاماً.
يكمل بدوى مُلقياً الضوء على اللقاءات الأولى بين هاسكل وجبران: «بدأت الحكاية حينما التقى جبران بهاسكل فى العام 1904، ولم يَمضِ كثيراً من الوقت لترى فى ذلك الشاب، الذى يصغرها بعشر سنوات، نبوغاً إبداعياً متفرداً فى الكتابة والرسم، فآمنت بهذه الموهبة الاستثنائية، وحملت على عاتقها تقديم الرعاية والدعم، فوقفت إلى جانبه كأم، وحبيبة، وشقيقة كبري، وابعد من ذلك، فقد كانت تموّل حياته اليومية مادياً لكى يتفرغ للرسم والكتابة، وكانت تدرك من خلال جبران سيتم تخليد اسمها».
يضيف فى السياق نفسه: «هى من قررت إرساله إلى باريس فى العام 1980 لكى يتقن فن الرسم، لأنه حتى تلك السنة لم يكن جبران يرسم إلّا بقلم الرصاص والفحم، فأرسلته إلى العاصمة الفرنسية ليتعلم فن الرسم بالزيت على نفقتها على مدى سنتين ونصف، ثم بعد سنوات اقترحت عليه أن يبدأ الكتابة باللغة الإنجليزية، فساعدته على اتقان اللغة، وكانت هى تدقق على كل ما يكتبه جبران بالإنجليزية، إلى أن اشتهر جبران وأصبح تلك الظاهرة الجبرانية العالمية. إذاً هذا الكتاب يتمحور حول هذه العلاقة على اعتبار أن كل الدراسات كتبت ونشرت كانت تمر مرور الكرام على علاقته بمارى هاسكل».
يشير بدوى إلى أن هاسكل ساهمت بشكل محورى فى تفجير نبوغ جبران الفنى والكتابي، وايصاله إلى العالمية، ويؤكد «لو لم يلتق جبران بمارى هاسكل لظلَّ مجرد كاتب محدود الشهرة»، ويلفت أن مارى جعلت جبران لا يفكر بهمومه المعيشية واليومية.
يبرز المؤلف فى شرحه عن جبران وهاسكل أنه «بعدما عاد من باريس؛ طلب الزواج منها، فرفضت نظراً لفارق العمر، وكان لديها شكوك فى حب جبران لها، وبدا طلب الزواج كما لو كان رداً للجميل، وهى أيضاً لم تكن واثقة أنها المرأة التى يبغيها ويحلم بها جبران».