فى الآونة الأخيرة انتشرت هوجة وفوضى مقاطع الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فرأينا كل من «هب ودب» يجلس أمام كاميرا الهاتف ويبث «فيديوهات» يقول فيها رأيه وما ينبغى أن يكون بحسب تفكيره، و»الفيديوهات» أشكال وألوان، يمتد محتواها من العناية بالبشرة وحتى صنع القرار السياسى والحرب، وأصبح المعيار هو الاعتماد على كم المشاهدة وعدد المتابعين لهذا الشخص أو تلك السيدة، بصرف النظر عن مستوى التعليم أو التخصص، فتصدر غير المؤهلين للحديث فى الشأن العام على المنابر الافتراضية دون رابط أو رقيب، الأمر الذى ترتب عليه الكثير من الآثار السلبية، لا سيما أن الهواتف النقالة باتت فى أيدى الجميع والكل بإمكانه أن يتصل بالاننرنت ويشارك فى هذا «العبث» كصانع محتوى أو كمتلقي، فيحدث مثلا أن نجد شخصًا يطل فى فيديو يزعم أنه «يكشف» للناس أنه عالم ببواطن الأمور السياسية وسيخبرهم بما لم يعلن فى لقاء الزعيم فلان بالزعيم فلان ورؤيته حول توقيت وإمكانية الحرب فى المكان الفلاني!!
للأسف وسائل الإعلام التقليدية إلى ينبغى فيها أن تكون رصينة ولها ضوابطها الراسخة عبر عشرات السنين وأقصد هنا الإذاعة والتليفزيون الكثير منها فى بعض الأحيان يختار نفس الموضوعات التى تبث فى مقاطع الفيديو على «السوشيال ميديا» ويصنع منها حلقات تليفزيوية أوإذاعية إعلاء لفكرة الرائج أو «التريند»، بل وتستند إلى أصحاب هذه المقاطع كما لو كانوا مرجعًا لما يتحدثون فيه وهم فى الغالب مجموعة من الجهلة أو ضعيفى التعليم أو فى أفضل صورهم ليسوا متخصصين فيما يتحدثون فيه.
حتى هذه المرحلة لم نكن قد وصلنا بعد إلى الصورة الأكثر قتامة، فربما نبرر لأنفسنا ونقول مثلا إن من حق الإذاعة والتليفزيون مناقشة الظواهر السلبية ومخاطرها وقد يكون تناولها لمثل هكذا فيديوهات وكائنات مجرد مناقشة للظاهرة ليس أكثر، لكن «المصيبة» – وأعنى هذه الكلمة «مصيبة»- أن بعض القنوات التليفزيونية راحت تلهث وراء أصحاب هذه الفيديوهات على «السوشيال ميديا» لتتعاقد معهم بالملايين وتمنحهم مساحة على شاشة التليفزيون أو عبر ميكروفون الإذاعة فى برامج يومية أو أسبوعية، وتقديمهم كإعلاميين نجوم!!
مكمن الخطورة يتمثل فى تقديم هؤلاء لموضوعاتهم والتى غالبًا تكون فى التاريخ أو الثقافة أو السياسة بما يتسق مع تعليمهم وثقافتهم وأهوائهم، ولا يوجد أى اعتبار للتعليم والتخصص، وكم هو محزن أن تتعامل وسائل الإعلام التقليدية «الإذاعة والتليفزيون» مع الفروع المختلفة من العلوم على أنها يمكن أن تكتسب بالفهلوة وأن يقدمها غير المتخصصين على الشاشة أو فى الإذاعة، وأن عدد المتابعين يكفى ويسمح لــ فلان أو فلانة من أصحاب ملايين المتابعين بتقديمها رغم أنه أو أنها لم يتجاوز تعليمه ثانوية تجارية «دبلوم» أو حتى لم يكمل جامعة !!، فقديمًا كانت الشاشات والإذاعات لا تكتفى فقط بأصحاب التخصص بل كانت تستند لأصحاب التخصص الدقيق وأقصد هنا التخصص من داخل التخصص نفسه!
مع اعترافنا بأن ثمة خللاً حادثاً فى هذا الشأن فينبغى أيضًا أن نعترف بأن الإعلام «الرسمي» وأخص هنا مبنى الإذاعة والتليفزيون فى مصر» ماسبيرو» لا يظل متمسكا بالقيم والضوابط التى تأسس عليها منذ عشرات السنين، فبحسب معلوماتى – وقد أمضيت ربع قرن فى ماسبيرو معدا ورئيس تحرير ومقدما للبرامج– يجب أن يراجع رئيس أى قناة قائمة ضيوف البرامج بنفسه ويشترط أن يكون الضيف متخصصًا فى موضوع الحلقة ويفضل أساتذة الجامعات والأكاديميين، فمن رابع المستحيلات مثلا أن تجد على شاشة التليفزيون المصرى الرسمى شخصًا يتحدث مثلا فى التاريخ وهو ليس أستاذًا للتاريخ فى الجامعة وحاصل على دكتوراه فى فرع معين من فروع التاريخ، وهكذا فى العلوم الأخري، فقديما على سبيل المثال كان يقدم برنامج عالم البحار الأستاذ الدكتور الراحل حامد جوهر وهو عالم كبير فى علوم البحار ويتصدر الحديث فى السياسة أساتذة العلوم السياسية والدبلوماسيون السابقون أو الحاليون وهم بالطبع إما دارسون أو مدرسون لعلم السياسية.
فيما يخص علوم الدين أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمًا تاريخيًا بحظر الفتوى على غير المتخصصين فقط، ليعيد بوصلة الإفتاء إلى مسارها الصحيح، ويقف فى وجه دعاة التطرف والإرهاب ويتصدى لانتشار المواقع الدينية وقنوات المتشددين، ومنصات «السوشيال ميديا» التى روجت لمفاهيم متطرفة تخالف مقاصد الشرع فتثير الفتنة فى المجتمعات العربية والإسلامية، وفى رأيى أن العلوم الدنيوية على اختلاف أنواعها وتخصصاتها تستحق أيضًا أن يصدر فى شأنها حكم مماثل على الأقل لضبط الإعلام التقليدي، فلو أننا يصعب أن نضبط «السوشيال ميديا» على اعتبار أنها فضاء إلكترونى خارج السيطرة وكل شخص يرى أن من حقه أن يظهر و»يفتي» طالما امتلك جهاز هاتف به كاميرا وانترنت!! فمازال بأمكاننا إنقاذ الإعلام التقليدى وإعادة ضبط بوصلته، وأخص بالحديث هنا الفضائيات الخاصة التى باتت تحاكى «السوشيال ميديا» لرفع نسب المشاهدة بصرف النظر عن الرسالة و المحتوي!.