إعلام يشارك
فى بناء الإنسان
لم أكن أتصور أن جولة واحدة مع «قوافل التنوير» ستكون كافية لتكشف لى كم أن هذا البلد حى، نابض، ومتعطش للوعى الحقيقى، لا الوعظ الجاف، ولا الخطاب المستهلك.. هذه القوافل التى أطلقتها الدكتورة منى الحديدى -أستاذ علم الاجتماع بجامعة حلوان ومقرر لجنة الشباب بالمجلس الأعلى للثقافة – ضمن فعاليات الموسم الثقافى 2024/2025 للجنة الشباب، لم تكن مجرد لقاءات تقليدية، بل كانت بمثابة عملية «زرع وعى» ميدانية، حقيقية، وملموسة.
تحت عنوان «وعى» وضمن المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان»، تحركت اللجنة بين الجامعات من الجنوب إلى الشمال: جامعة أسوان، جامعة القاهرة، جامعة قناة السويس، جامعة عين شمس (من خلال كلية البنات)، وغيرها من مؤسسات التعليم العالى التى فتحت أبوابها لنا، وللأفكار التى نحملها.
ما لفتنى فى هذه التجربة، كإعلامى، ليس فقط تنوع المشاركين من الشخصيات العامة، بل عمق الرسالة التى يحاول كل واحد منهم إيصالها..كان معنا اللواء أركان حرب دكتور حافظ محمود حسن، الذى قدم للطلبة نموذجًا للمثقف العسكرى، المثقف بالمعنى الكامل للكلمة..وتحدث الفنان الكبير طارق الدسوقى عن الفن كأداة مقاومة وتنوير، لا كترف بصرى عابر..وأضاء الكاتب إيهاب الملاح على أهمية الكلمة المكتوبة فى إعادة تشكيل الوعى الجمعى، بينما قدّم الدكتور جمال الشاعر خلاصة تجربته الإعلامية والثقافية بطريقة لم تخل من الحماس والصدق.
كنت أراقب التفاعل فى عيون الطلبة..هم لم يأتوا لسماع خطب، بل جاءوا يفتشون عن معنى..عن إجابة..عن شخص يخاطب عقولهم لا فقط عواطفهم ،وكنت أشعر « وأنا أشارك فى الحوارات وأغطى النقاشات « أن هذا الجيل ليس كما يُشاع عنه..هم أكثر وعيًا مما نظن، لكنهم يحتاجون لمن يثق بقدرتهم على الفهم، على النقاش، على الاختلاف.
اللافت أيضًا أن هذه القوافل لم تكن عملاً مركزياً مفروضاً من أعلى، بل جاءت كتحرك أفقى، ديمقراطى، فيه مساحة لكل صوت..اللجنة فتحت الأبواب للطلبة للحديث، للسؤال، للنقاش الحر.. وكانت النتيجة طاقة من الحيوية الفكرية لم أشهدها منذ سنوات.
كإعلامى، لطالما سألت نفسى: ما هو دورنا الحقيقى؟ هل نكتفى بنقل الحدث؟ أم نحاول أن نكون جزءًا من تشكيله؟ هذه التجربة أجابتنى: الإعلام يجب أن يكون طرفًا فى عملية التنوير، لا مجرد ناقل لها. نحن بحاجة إلى إعلام يشارك فى بناء الإنسان، لا فقط فى تغطية ما يُبنى.
قوافل التنوير ليست مجرد فعالية، بل هى اختبار جاد لقدرتنا على إعادة صياغة خطابنا الثقافى مع الشباب.
هذه المبادرة، التى تقودها الدكتورة منى الحديدى ولجنة الشباب بالمجلس الأعلى للثقافة، تمثل خطوة حقيقية نحو التغيير من الداخل، من قلب الجامعات، من عقول شباب هذا الوطن.
وإن كنا نطمح لبناء إنسان جديد، فلا بد أن يبدأ البناء من الوعى..والوعى، كما أثبتت هذه القوافل، لا يأتى بالخطب الجاهزة، بل بالحوار، بالقدوة، وبالمعرفة التى تُلقى من القلب إلى القلب.
ملاحظة أخيرة كإعلامى: ما شهدته فى هذه القوافل يستحق أن يتحول إلى مشروع وطنى مستدام، لا موسم ثقافى عابر. فهناك شباب يستحقون أن يسمعوا، وأن يُسمعوا.