ولدى القمة العربية اليوم مساحات واسعة للتحرك والانطلاق لم تطرقها الإرادة السياسية العربية بعد
أتمت جامعة الدول العربية فى مارس الماضى عامها التاسع والسبعين كأقدم منظمة دولية إقليمية على مستوى العالم، بل أقدم من منظمة الأمم المتحدة نفسها التى ولدت بعدها بسبعة شهور.
مؤتمر القمة العربية الذى يبدأ أعماله اليوم فى دولة البحرين يحمل رقم ٣٣ فى قائمة مؤتمرات القمة العربية منذ نشأة الجامعة.
لا تنطلق القمة العربية اليوم من فراغ بل من أساس قوى يمكن، بل يجب البناء عليه وأقصد به القمة العربية الاسلامية المشتركة التى استضافتها العاصمة السعودية الرياض وجمعت الدول الأعضاء فى الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامى قبل شهور.
الموقف القوى الموحد الذى أظهره قادة ما يزيد على الخمسين دولة فى هذه القمة والأفكار التى ترجمتها قراراتها كانت نقطة الانطلاق الحقيقية لكثير مما نراه من مكاسب تحققت للقضية الفلسطينية خلال الشهور التى تلت هذه القمة.
القمة العربية الإسلامية هى التى دعت دول العالم والمجتمع الدولى إلى التحرك لعرض جرائم الحرب الاسرائيلية ضد الفلسطينيين فى غزة على القضاء الدولى ومنها تلقفت دولة جنوب افريقيا هذه الدعوة وتقدمت بدعواها لمحكمة العدل الدولية متهمة اسرائيل وممارساتها فى غزة بالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
وهى التى دعت الدول التى تصدر السلاح لإسرائيل إلى وقف صادراتها التى تستخدمها اسرائيل فى حربها ضد الفلسطينيين فى غزة.. ولقيت الدعوة استجابة فى الفترة الأخيرة من بعض هذه الدول.
وهى التى دعت دول العالم لدعم القضية الفلسطينية فى الأمم المتحدة وتأكيد حق الشعب الفلسطينى دولته المستقلة على أرضه وفق مقررات المنظمة الدولية ورأينا فى بداية هذا الأسبوع كيف انتصرت الجمعية العامة للأمم المتحدة لحق الشعب الفلسطينى فى أن ينتقل وضع دولته فى الأمم المتحدة من صفة العضو المراقب إلى العضو كامل العضوية بأغلبية ساحقة مع توصية لمجلس الأمن بالتعامل مع هذا الطلب بإيجابية.
هذه بعض أهم الأمثلة التى تجسد رسالة من قمة الرياض العربية الاسلامية لقمة البحرين العربية وهى انه عندما تتوافر لدينا الإرادة السياسية الواحدة لإطلاق المبادرات ومتابعتها على الصعيد الدولى فستجد من يستمع إلى كلمتنا ومن يحترم قراراتنا ومن يسعى لتفعيل مبادراتنا.
عاملان مهمان ساهما فى تفعيل وتجسيد ما صدر عن قمة الرياض من قرارات هما وصول الجرائم الاسرائيلية فى غزة والضفة إلى مستوى من البشاعة لا يتحمله أى ضمير انسانى مما دفع بعضنا من أقرب حلفاء اسرائيل إلى النأى بأنفسهم عنها.. وفى مقابل ذلك الصمود الأسطورى لشعب فلسطين فى غزة والضفة فى وجه هذه البشاعة وبسالة المقاومة الفلسطينية على الأرض وخارجها من أنصار القضية فى التعامل الميدانى مع أحد أقوى جيوش العالم فى أقصى حالاته العدوانية.
قمة البحرين اليوم تستحق ما أطلقه البعض عليها وهو انها «قمة غزة» لكن بمفهوم ان غزة رمز.. أما قضية قمة اليوم فهى قضية فلسطين والأمن القومى العربي.
فإذا كانت عملية «طوفان الأقصي» قد اجتاحت الداخل الاسرائيلى بجسارة وكشفت هشاشة القوة الاسرائيلية العسكرية والأمنية والاستخباراتية التى لا تقهر وانه لا أمن لإسرائيل دون أمن الفلسطينيين فإن الاندفاع العسكرى الاسرائيلى فى غزة والضفة والتحول من الرد على «طوفان الأقصي» إلى الإبادة الجماعية وإلغاء الشعب الفلسطينى ومحو وجوده من خريطة الشرق الأوسط قد أحدث طوفانا آخر بل «تسونامي» على كشف كل سوءات اسرائيل أمام الرأى العام العالمى فى كل مناطق العالم وأفقدها الكثير من مقومات الدعم الذى كان يتدفق عليها ويحيطها العالم به ورسم صورة ذهنية لحقيقتها لدى المخدوعين فيها أصبحت قوة دافعة لما نراه اليوم من تحولات للرأى العام العالمى وللأجيال الجديدة فيه وصلت إلى داخل أهم معاقل أقرب حلفائها.
اسرائيل تدرك حجم ما أصابها من أضرار، لكن جنون قيادتها واستكبارها لا يدع لها فرصة للتوقف سعيا لنصر كامل لن يتحقق ومحاولة للتنصل من مسئوليتها عن الحالة الانسانية التى أوصلت غزة إليها وتحميلها للآخرين.
هنا أتصور ان العمل العربى المشترك أمامه ثلاثة مسارات رئيسية للتعامل مع القضية: وهى مسارات متكاملة والتحرك عليها يجب أن يكون متزامنا وهو ما اعتقد ان قمة البحرين تأخذه فى اعتبارها وهى تصدر قراراتها.
> المسار الأول هو التعامل مع الوضع الراهن على الأرض فى غزة وتداعيات أى تصعيد جديد متوقع فى رفح الفلسطينية وانعكاساته المباشرة على الأمن القومى العربى والأمن والسلم الدوليين.
> المسار الثانى هو التعامل مع أصل القضية وهو الاحتلال الاسرائيلى للأراضى الفلسطينية منذ عام 1967 والذى يجب أن يزول حتى يمكن تفعيل حل الدولتين بإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على قدم المساواة مع اسرائيل.
> المسار الثالث هو الدفع فى اتجاه تصحيح النظام العالمى القائم والذى يسمح لدولة واحدة فيه أن تتحدى العالم كله وتنتهك كل مواثيقه ومبادئ القانون الدولى العام والانسانى فى حماية قيادة هذا النظام.
ان مشهد قيام مندوب اسرائيل فى الجمعية العامة للأمم المتحدة بتمزيق ميثاق المنظمة الدولية أمام ممثلى مائة وسبع وسبعين دولة رفضا لنتيجة التصويت الكاسحة لصالح عضوية فلسطين الكاملة فى المنطقة الدولية يمثل اهانة غير مسبوقة من مندوب دولة عضو للمنظمة ولميثاقها ولجميع الدول الأعضاء فيها الذين يمثلون المجتمع الدولى كله.. اهانة تستحق تقديم طلب جماعى لمحاسبة اسرائيل عليها.
العمل على هذه المسارات ينبغى أن يكون متزامنا فكلها على نفس المستوى من الأهمية ولا مسار منها يمكن أن يغنى عن الآخر.
والظرف الحالى على الساحة العالمية يوفر لنا فرصة نادرة لاستعداد العالم لاستيعاب وتقبل قرارات قوية وذات فعالية مباشرة والتفاعل معها دون أن نطلق رصاصة واحدة.
ولدى القمة العربية فى البحرين اليوم مساحات واسعة للتحرك والانطلاق لم تطرقها الإرادة السياسية العربية بعد، مساحات سياسية واقتصادية ودبلوماسية وفى حدود القانون الدولي.
وعلى سبيل المثال فإن مجرد اعلان مصر عزمها التدخل إلى جانب دولة جنوب افريقيا فى دعواها القضائية باتهام اسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فى غزة يمثل نقلة نوعية فى الموقف المصرى ورسالة قوية تدرك اسرائيل مغزاها جيدا وهى تحاول العربدة فى رفح الفلسطينية.
المهم.. الإرادة السياسية الجماعية والالتزام بالأمن القومى العربي.