مصر حريصة على أن تعيد ترتيب الأولويات الإقليمية
فى لحظة فارقة من عمر الإقليم، جاءت جولة الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى دولة قطر ودولة الكويت، لتؤكد أن القاهرة لا تنتظر الأحداث، بل تبادر إلى صناعتها.. زيارة حملت أبعاداً استراتيجية عميقة، تجاوزت الطابع البروتوكولى إلى مضمون تنسيقى يعكس وعياً مصرياً متقدماً بمقتضيات المرحلة وتحولاتها المتسارعة.
الزيارة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت وسط تصاعد غير مسبوق فى حدة التحديات التى تواجه المنطقة: صراعات إقليمية، اضطرابات اقتصادية عالمية، توتر على جبهات عديدة، وأزمة فلسطينية تتصدر المشهدين العربى والدولى مجدداً.. هذا الواقع المأزوم يفرض على القوى العربية الكبري، وعلى رأسها مصر، أن تتحرك بمنطق الشراكة والتنسيق لا بمنطق الانتظار ورد الفعل.
فى هذا السياق، تتحرك الدبلوماسية المصرية، بقيادة فخامة الرئيس السيسي، بقراءة دقيقة للمشهد، مدفوعة بوعى استراتيجى يرى أن الحفاظ على الأمن القومى العربى يبدأ من تعزيز الجسور مع شركاء الصف الأول فى الخليج.
من وجهة نظرى أن اختيار قطر والكويت تحديداً له دلالته ..الدولتان تمثلان ركيزتين فى البيت الخليجي، ولكل منهما وزنه السياسى والاقتصادى والإعلامى.. فى قطر، تبرز الملفات السياسية والإقليمية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وتفاعلاتها والتوترات فى غزة ،أما فى الكويت، فتبرز الأبعاد الاقتصادية والاستثمارية إلى جانب التنسيق السياسي، فى ظل توجهات الكويت التاريخية للعب دور توافقى وحوارى فى الأزمات.
ما يميز الجولة، هو ذلك التوازن الذكى بين الملفات.. الاقتصاد لم يطرح بمعزل عن الأمن، والأمن لم يناقش دون رؤية سياسية.. هذا التكامل يعكس أحد أبرز ملامح الدبلوماسية المصرية المعاصرة: عدم تجزئة الملفات، والعمل على أرضية من التنسيق العميق والمتعدد الأبعاد.
مصر، من خلال هذه الجولة، لم تطرح فقط رؤيتها لمستقبل المنطقة، بل عملت على تعزيز شبكة المصالح المشتركة، وفتح قنوات استثمار جديدة، وتعزيز التنسيق الأمنى فى ظل التحديات المشتركة.. واللافت أن هذا يحدث فى ظل ظرف اقليمى شديد الحساسية، ما يمنح هذه التحركات وزناً إضافياً ويعكس قدرة مصر على المبادرة لا الاكتفاء بردود الأفعال.
كان لافتاً حجم التركيز على القضية الفلسطينية فى لقاءات الرئيس ،وفى ظل ما تشهده غزة من تصعيد دموي، بدت مصر حريصة على أن تعيد ترتيب الأولويات الإقليمية، وتؤكد أن الأمن القومى العربى يبدأ من فلسطين.. الموقف المصري، الثابت تاريخياً، جاء هذه المرة مدعوماً بتحرك دبلوماسى نشط لإعادة فرض القضية الفلسطينية على الطاولة الدولية، ووقف نزيف الدم، ومنع الانفجار الأكبر.
الجولة الخليجية للرئيس السيسى تقدم نموذجاً لما يمكن تسميته بـ «الدبلوماسية المصرية الجديدة»: عقلانية، مبادرة، واقعية، وتوازن دقيق بين المصالح الوطنية والأبعاد القومية. لا شعارات، بل خطوات عملية لا ردود أفعال، بل تحرك هو مدروس يستبق التحديات.
ختاماً، مصر التى تتحرك اليوم بثقة فى ساحتها الإقليمية، تعود لتؤكد أنها لا تغيب عن مشهد القرار العربي، بل تسعى لتقود، بحكمة، وتحمى مصالحها بشراكات راسخة، وتبنى توافقات تحفظ استقرار المنطقة.. وبهذا المعني، فإن جولة الرئيس السيسى ليست مجرد زيارة، بل رسالة سياسية استراتيجية تقول إن القاهرة ما زالت فى قلب الفعل العربي، ومفتاحاً ضرورياً لأمنه واستقراره.