اعترف نجيب محفوظ أكثر من مرة بأن تحويل رواياته إلى أفلام ومسلسلات ساهمت فى وصوله إلى قطاع كبير من جمهور لا يقرأ ولا يكتب.. وصنعت شعبيته.. لأن القراءة بعيدة المنال حتى ان أغلب المتعلمين إلا فيما ندر.. ونفس الاعتراف.. صرح به توفيق الحكيم ويوسف إدريس ويوسف السباعى وطه حسين وكان أديب مصر محمد جبريل أشهر من كتب عن إسكندرية وبحرها وأوليائها ودهاليزها.. وهو أيضًا عاشق تراب مصر الذى رصده بقلمه شخصياتها وملامحهم.. وغامر فى التاريخ القريب والبعيد بمهارة جعلته فى صدارة نجوم الأدب.. دون أن تتحول رواية واحدة من رواياته التى تزيد على الأربعين إلى فيلم أو مسلسل.. وعندما اخترت قصة «الشاطئ الآخر» ورشحنا لها نور الشريف.. وقدمت معالجة تليفزيونية لكى تكون عملاً دراميًا.. لم يمانع قطاع الإنتاج فى اتحاد الإذاعة والتليفزيون ولكنه لم يعطها الضوء الأخضر.. وكانت مشكلة جبريل أنه لا يعرف إلا الكتابة بدون شلة أو بروبجندا إعلامية وهو الذى عمل بالصحافة لما يقرب من نصف قرن داخل مصر وخارجها، وكان صالونه الأدبى بجريدة المساء مدرسة تخرج منها عشرات الأدباء.. وهناك أدباء أقل منه فنيًا وخاضوا تجربة الدراما بأنواعها بالمجاملات ووسائل أخري.
وكان يكفيه دائمًا أن يقول أعمالى تتحدث نيابة عني.. وفوزى بجائزة الدولة التشجيعية ثم التقديرية هو التكريم الحقيقى إلى جانب عشرات رسائل الدكتوراه والماجستير التى تناولت أعماله داخل مصر وخارجها.
نوبل لها حساباتها
اقترب من نجيب محفوظ.. وأحب يحيى حقى وزامل أديب «المساء» الكبير عبدالفتاح الجمل.. فإذا سألته كيف الوصول إلى نوبل يقول: هذه الجائزة لأنها الأهم فى دنيا الأدب لها حساباتها التى تتجاوز الإبداع إلى السياسة وهو أمر لا جدال فيه.. وبقدر ما يستحقها محفوظ فإن هناك عشرات الأسماء الأخرى التى انتظرت الجائزة وهى مستحقة لذلك وقد اعترف أكثر من مرة فى حوارات صحفية بأنه لا يملك شجاعة مواجهة الجمهور.. رغم أهمية مثل هذه اللقاءات للأديب والمفكر.. لكى يعرف إلى أين يمضي.. وكان قانونه فى الكتابة أن يطبق نظرية أم كلثوم.. فهى تقف على المسرح أمام المئات وينتقل صوتها عبر الراديو والتليفزيون إلى الملايين لكنها تغنى لمستمع واحد تخترعه إن لم تجده.. ولا يهمها بعد ذلك ما يقال سلبًا أو إيجابًا.. وكانت نصيحة الناقد كمال الجويلى زميله فى جريدة «المساء» التى عمل بها حتى آخر أيامه.
وكثيرًا ما سألت نفسى وسألته: كيف تكتب فى الجرائد مقالاتك ومعها يصدر لك رواية أو دراسة ضخمة فيها جهد كبير مثل أهل البحر.. أو مصر فى قصص كتابها.. أو «سقوط دولة الرجل».. أو الأمثال والتعبيرات المصرية «كتابات لا يملك التصدى إلا الباحث الصبور الذى يؤمن بما يعمله.
وإذا حاولت أن تقبض على مفتاح شخصية جبريل فلن تجده إلا فى توحده مع نفسه ومع الآخرين.. ظاهره مثل باطنه.. وفى قصة حبه وارتباطه بالدكتورة زينب العسال رواية عظيمة كتبتها الأيام على مدى أكثر من 40 سنة عندما تعرف عليها فى سلطنة عمان كان مديرًا لتحرير جريدة الوطن وهى مدرسة لغة عربية ودين فى إحدى المدارس ودخلت إلى الصحافة وجعلها تبدأ من الأرشيف.. وكما ساهمت فى تجاوز أزمته مع زوجته الأولى أم أولاده.. ساهم هو أيضًا فى تغيير مسارها حتى حصلت على الدكتوراه فى الفنون والمسرح حتى تعددت أدوارها معه فهى الناقد الأول والصديق والحبيبة والابنة والزوجة واللمة كلها رغم أنها لم ترزق بأولاد.. وكان جبريل هو ابنها الذى يكبرها.. وعينه التى يرى بها وقدمه التى يبطش بها خاصة بعد أن أقعده المرض عن الحركة إلا فى أضيق نطاق.. لكنه وسط كتبه وإبداعاته.. يسافر رلى أبعد المدن والأزمنة.. وقد انعكس قلبه الأبيض مثل شعره على الأجيال التى ارتبط بها من خلال صالونه الأدبى الذى استمر لأكثر من 30 عامًا وكان نافذته على أعمار كبرت فى غيابه أثناء سنوات سفره إلى سلطنة عمان.
وزينب دائمًا هى أهم جملة فى سطور حياته.. حتى أصبحت عصاه التى يتوكأ عليها فى ذهابه وإيابه وصحوه ومنامه.
مدد يا أبا العباس
قال النقاد إن «رباعية بحري» من أهم الأعمال الإبداعية فى القرن العشرين.. وتلمس فيها ارتباطه الروحانى بأولياء الإسكندرية «أبو العباس – البوصيرى – ياقوت العرش – على تمراز» وعندما يكلمك عن بحرى فى رواياته تتحول عينه إلى كاميرا.. لا تكتفى فقط بالتقاط أدق الأشياء.. لكنه يختار لها الزوايا المناسبة وبقعة الضوء التى تكمل الصورة وتحدد أبعادها النفسية والاجتماعية.. وكانت فلسفته أن الفنون بعضها من بعض.. السينما والتشكيل والمسرح والشعر.. وفى أحد أجزاء الرباعية يقول:
كتل الظلام تلف الناس والأشياء حتى الظلال تختفى ربما يصحو على إيقاع جياد الملك فى شوارع الحى ساعة وتعود إلى السراي.. ينصت فى موضعه على السرير إلى الابتهالات والاستغاثات والتسابيح تتناهى من مئذنة أبو العباس وهو الولى الصالح الذى يعد مسجده معلمًا مهمًا فى حى بحرى بالإسكندرية يأتيه الناس من كل حدب وصوب وقلوبهم هائمة بحبه يذهبون إليه للمباركة بمقامه راغبين فى نيل كراماته حتى أصبح اسمه محفورًا فى أغانى أهل بحرى الفلكلورية.
ويقول: فى اللحظات التالية لاذان الفجر من زاوية الزواوى الضوء الذى يصدر عن نافذة الجد السخاوى المقابلة يتكسر عبر شيش نافذته على جدران الغرفة الواسعة لدقائق ثم تسود الظلمة السعى إلى الزاوية من صقر باشا وشارع جودة والمسافر خانة وفرن حبيب والأزقة المتفرعة ربما حتى سراى رأس التين الهمسات الدعوات البسملات الحوقلات الأصوات المتحادثة مهما تلفعت بالهمس فإنها تصل إليه خلال الصمت والظلمة واضحة رائقة يتلاشى كل أثر لضوء فيما عدا الأصوات الباهظة المنبعثة من ثقوب الزاوية بابها الصغير ونوافذها التى يغطيها وجه إنسان.
هذا الكنز
وهكذا يأخذك جبريل من تاريخ الإسكندر الأكبر.. إلى التاريخ الإسلامى وأئمة التصوف.. إلى أزقة وحوارى بحري.. ثم إلى بحر مصر الواسع.. لا يمسك قلمه ولا يداعب أوراقه إلا محبًا وعاشقًا لما يقول.. وفى زيارتى الأخيرة له قبل 40 يومًا من رحيله أهدانى روايته «سفينة الجزيري» وهى أشبه بسفينة نوح.. كل من يود الصعود إليها.. يحمل على كتفه حلمه.. حتى قال عنها الناقد الدكتور رضا صالح إنها رواية الحلم البشرى فى البحث عن المدينة الفاضلة.
وفيما يقول بطل الرواية لركابها:
يشغلنى الفرار من الجحيم وليس دخول الجنة.. إنه ليس حلمًا ولكنها محاولة للخلاص وهذه سفينة الوصول إلى الملاذ نحن نرحل بدافع الرغبة فى سلامة النفس ويظل الناس هم الناس فى البحر أو البر.
لتصبح سفينة الجزيرى هى سفينة جبريل التى رحل بها ومعها إلى العالم الآخر تاركًا تراثه الأدبى يبحث عن الفيلم والمسلسل والمسرحية.. بعيدًا عن المقتبس والمكرر والمعاد.