استمرار الحوارات الجادة بين المثقفين مسألة فى غاية الأهمية وباتت حاجة إنسانية فضلا عن كونها وطنية وقومية على المستويات كافة.. فقد سعدت خلال الأيام القليلة الماضية بالمشاركة فى مناقشات صالون ابو الجواهر بدعوة كريمة من الشيخ تركى البراهيم بحضور الاديب الكبير يوسف القعيد ود.أحمد العرفج استاذ الإعلام بالجامعات السعودية والإعلامى طراد الاسمرى والإعلامية هوازن شاهين المدير العام بقناة سى إن بى سى عربية واللواء نصار وعدد من الضيوف السعوديين الدارسين فى الجامعات المصرية وغيرهم من محبى مصر وعشاقها..
قضايا كثيرة فرضت نفسها على الحوار الذى جاء عفويا منسابا فى سلاسة ويسر خاصة حول ما تموج به المنطقة من أحداث جسام والصراع مع الصهيونية العالمية والحرب على الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية وأهمية التعاون والاتحاد العربى وضرورة وحدة الصف فى مثل هذه الظروف التى تعج بالاختلال والتحيز والتطرف المقيت ضد الحقوق العربية والفلسطينية والمساندة الغربية والأمريكية العمياء والدفاع اللامحدود عن العدو الاسرائيلي..إلى جانب الهموم العربية والآمال والطموحات نحو غد مشرق وأكثر قدرة على تجاوز التحديات المفروضة على المنطقة وتفاعلاتها على الساحة الدولية..
مصر ودورها المحورى كانت حاضرة بقوة فى المناقشات والتأثير الكبير للتعاون العربى والعمل المشترك سواء فى تحقيق خطط وطموحات التنمية للدول المختلفة والارتقاء بكل ما يحقق النهضة الشاملة سواء فى المنظور القريب أوعلى المدى البعيد..
شخصيتا الزعيمين الكبيرين عبدالناصر والسادات اسحوذتا على قدر كبير من النقاش وكان الحوار ساخنا بصورة لم أتوقعها..كان هناك شبه إجماع على أن الرئيس السادات رحمه الله كان شديد الذكاء وبعيد النظرة وان ما طرحه منذ عقود فى سبيل السلام كان افضل بكثير مما يتم الصراع حوله الان واتفق القعيد والاسمرى فى ذلك وأنه كان يمكن أيامها انتزاع الحقوق للفلسطينيين وكبح جماح التطرف الصهيونى الذى استفحل اشتد وطأة فى سنين نتياهو الغبراء..
المبادرة العربية التى طرحها الملك عبدالله كانت حاضرة وأثارت الكثير من الجدل..طراد الاسمرى يؤكد أنها كانت الركيزة التى يستند عليها التحرك السعودى فى التطبيع مع الكيان الصهيونى والسعى نحو إقامة الدولة الفلسطينية..وكانت فرصة حقيقية امام الفلسطينين..
قلت: إن المبادرة العربية مطروحة منذ العام ٢٠٠٢ ولم تقبل بها اسرائيل رغم العرض المغري..سلام عربى شامل مقابل استعادة الحقوق العربية فى فلسطين وسوريا ولبنان..وقد رفضتها إسرائيل لأنها تتعارض مع خططها التوسعية ورغبتها المسعورة فى ابتلاع الأراضى وتهجير الشعوب واقصائها والهيمنة على المنطقة.وقلت إن نتنياهو من المستحيل أن يقبل المبادرة العربية بعد ٢٢ سنة وهو يفضل بمكر وخبث شديدين ويحبذ التطبيع الأحادى الفردى مع الدول العربية.. فالمتطرفون الصهاينة يريدون تطبيعا على مزاجهم ومقاسهم خاصة بعد أن نجحوا فى التلاعب بالجغرافيا والديموجرافيا فيمارسون التهجير بكل أنواعه وطرد السكان الأصليين ليس فقط من القدس المحتلة ولكن من كل فلسطين التاريخية ثم إنهم يعملون بكل قوة على تنفيذ مخططات استيطانية تحول دون إقامة دولة فلسطينية متصلة الأرجاء تصعب حل الدولتين..
الصهاينة يريدون تطبيعا مجانيا لايرتب عليهم أى التزامات بل يكسبون من ورائه الأرباح الاقتصادية فضلا عن القضاء على القضية الفلسطينية وتصفيتها تماما وهو غاية المراد..
انتقل الحديث إلى محور الصحافة العربية سأل د.العرفج عن حقيقة ما يقال إن الصحافة الورقية تحتضر وأنها فى طريقها للاندثار.. قلت.. بالعكس الصحافة الورقية قوة مهمة ولاتزال مؤثرة على الساحة المحلية والعالمية ولا تزال تحقق الانفرادات وتسجل الكثير من نقاط التميز..صحيح انها تأثرت كثيرا بفعل الثورة فى وسائل التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية إلا أنه يبقى لها سحرها الخاص..
وعلى ما يبدو فإن ارتفاع الأسعار للمواد الخام وزيادة تكلفة الطباعة وتراجع السوق الإعلانية أضافت مشاكل كثيرة ومؤثرة على الصحافة الورقية فتراجعت الكثير من المطبوعات والبعض اختفى وتم استبداله بمواقع إلكترونية..
وعلقت الأستاذة هوازن أن الصحافة السعودية كان لها دورها الكبير على الساحة العربية ولاتزال النسخ الورقية موجودة حتى الآن سواء التى تصدر داخل المملكة أو خارجها..
وتطرق الحوار عن مساهمات الصحفيين المصريين والسعوديين معا فى تحقيق الطفرة فى الصحافة السعودية عموما خلال العقود الفائتة..
يتدخل أبوالجواهر لضبط إيقاع النقاشات الساخنة ويسأل الأديب يوسف القعيد عن علاقته بالكاتب الكبير الراحل محمد حسين هيكل..يحكى القعيد عن علاقته الممتدة مع الاستاذ ولقاءاته المباشرة معه خاصة زياراته له فى مكتبه بعد أن غادر الاهرام وكانت الزيارة فى أول الأمر مرة كل شهر ثم أصبحت مرتين إلى أن صارت مرة أسبوعيا..وفى إحدى المرات سألنى الأستاذ هيكل لماذا لا أقوم بتسجيل الحوار الذى يدور بينى وبينه؟ فأجبته بأننى أدون مجموعة من النقاط حتى أتذكر من خلالها تفاصيل الحديث فرد قائلاً: لابد أن تسجله وإذا استطعت نشره افعل ذلك فهذه الأحاديث تصلح لأن تكون فى كتاب خاصة أن كل الأسئلة التى تطرحها عن علاقة جمال عبد الناصر بالمثقفين وبالفعل بدأت فى تسجيل الأحاديث التى كانت تدور بينى وبين الأستاذ إلى أن أصبح لدى ساعات كثيرة من التسجيلات فقمت بتفريغها بشكل كامل وذهبت إليه حتى يطلع عليها مثلما يقتضى العرف الصحفى خاصة أننى اتعامل مع أستاذ الصحافة المصرية والعربية فقرأ ما كتبته واستبعد منه كميات كبيرة مما قاله لى وقال: «أنا لا أكذبك ولكنى لا احب أن انشر هذا الكلام» واحتفظت بما حذفه والذى كاد أن يكون فى حجم الكتاب الذى نشرته، ثم ذهبت إليه بعد ذلك حتى ارجوه أن يسمح لى بنشره متصورا أن مرور الزمن قد يجعله يغير رأيه ولكنه رفض وتمسك بموقفه لأنها تخص مجموعة من الناس ذكرهم بالاسم ورأى أنه لا يصح نشرها إلى أن أصابه المرض ورحل..
سألت القعيد عن مصير تلك الأجزاء المحذوفة أو المؤجلة فأجاب: لقد رحل الاستاذ إلى جوار ربه ولم يعد من حقى أن انشر كلمة واحدة مما كان معترضًا عليه ولن أقوم بنشره فى حياتى على الإطلاق.
وعن لقائه الأول بالأستاذ هيكل قال القعيد:أتذكر أنه عندما صدرت روايتي»الحداد» أردت أن أهديها للأستاذ هيكل ذهبت اليه فى مكتبه الخاص واكتشفت وقتها اهتمامه غير العادى بالأدب وأنه لم يكن مجرد أهم صحفى فى تاريخ مصر والمنطقة بل كان مثقفًا كبيرًا ويعتنى بالثقافة بشكل غير عادي.وقد استمرت لقاءاتى معه و تطورت وأجريت معه حوارًا نشرته فى كتابى «عبد الناصر والمثقفون والثقافة» كان الكتاب عن تجربة عبدالناصر الثقافية من وجهة نظر هيكل ومن خلال الأحداث التى عاصرها ومرّ بها.
وأوضح أنه تعلم كثيرا من قربه من الأستاذ خاصة التنظيم واعتبار الوقت ثروة كبرى مسألة لا تقل أهمية عن أى شيء فى حياة الإنسان وأن إضاعة الوقت الذى نعيشه حاليًا والتعامل معه على أنه شئ لا قيمة له خطأ جوهرى كبير يجب أن نحاربه وألا نستمر فيه.
والله المستعان..