نعم فى البدء كانت الكلمة وفى البدء كانت مصر..
والكلمة هنا لم تكن ظاهرة صوتية ينطق بها الإنسان بل كانت فكراً وفلسفة وعلما أنتج حضارة مازال العالم يحاول فك شفراتها ويقف أمامها عاجزاً.
فى العصر الحديث ورغم آلام نكسة 1967 احتمت مصر بوعى شعبها ليترجم فى أول معرض للكتاب 1969 لتتواكب مع احتفال القاهرة بعيدها الألفي، فقرر وزير الثقافة آنذاك ثروت عكاشة الاحتفال بالعيد ثقافيًا، فعهد إلى الكاتبة والباحثة سهير القلماوى بالإشراف على إقامة أول معرض للكتاب.
وتمتد الرحلة.. وما أشبه الليلة بالبارحة وسط الأنواء والنيران المشتعلة فى المنطقة، تقدم مصر للعالم نموذجاً آخر.. بلد الحضارة تقاوم الشر والموت والدمار والخراب بالبناء والمقاومة، بالفن والثقافة، ووعى أهلها هو حجر الارتكاز.
يبدأ معرض القاهرة الدُولى للكتاب اليوم دورته الـ 56 وحتى 5 فبراير المُقبل رافعاً راية العلم باختيار د. أحمد مستجير العالم والمفكر، ورائد الهندسة الوراثية شخصية المعرض، فالعلم والفكر والأدب وجوه لعملة واحدة.
فلا تقدم بلا علم ولا حياة بدون فن وابداع، وهذا ما يميز الإنسان عن باقى المخلوقات.
ومعرض الكتاب هو الثانى على مستوى العالم من حيث الضخامة بعد فرانكفورت، وأعتقد أنه الأول من حيث التأثير من خلال البرنامج الثقافى المصاحب لسوق الكتاب.
وإذا كانت صناعة الكتاب الورقى تواجه تحديات النشر الإلكتروني، فالوعى الثقافى يواجه أزمة فى مواجهة تحديات الهوية ومحاولات الطمس المستمرة من قوى تسعى للسيطرة والهيمنة وليس أمامها من قوة أكثر من تشبث الشعوب بهوياتها.
يشمل المعرض برنامجا ثقافياً ثرياً ومتنوعاً يضم أكثر من 600 فعالية ومشاركة 1345 دار نشر و6150 عارضًا للإصدارات الأدبية والفكرية من مصر و80 دولة تشارك بالمعرض منها 10 دول للمرة الأولي.. وأهم ما يميز معرض الكتاب الحوارات الثرية بين عقول مصر من مختلف الأجيال لتبدد البرد مناخيا، والظلام والتخلف والتطرف فكرياً.
وأنا أعرف العديد من رموز الابداع العربى من مختلف البلاد العربية حريصين على المشاركة وعلى نفقتهم الخاصة من أجل اللقاء والحضور والتفاعل، لتتحول القاهرة الى أمم متحدة ثقافية.
واللافت للنظر أن المواكبة الإلكترونية جعلت وزارة الثقافة تتجه نحو العالم الإلكترونى بإطلاق منصة الكتب الإلكترونية لإصدارات الوزارة التى ستتيح عددًا من الإصدارات فى مختلف فروع المعرفة، وستتاح للجمهور مجانًا لينهلوا من بحور الثقافة.. كما تطلق الوزارة مجموعة من التجارب الرقمية التكنولوجية الرائدة فى المجال الثقافي.
وأعتقد أن اختيار سلطنة عمان ضيف شرف للمعرض ضمن فلسفة المعرض السنوية أمر جيد للتفاعل والحوار على مختلف المستويات بين رواد المعرص والثقافة العمانية لبلد عُرف على مدار التاريخ بأنه صاحب حضارة قديمة وعريقة، بين حضارات فارس والعراق والهند، وأعتقد انه لو تم الاحتفاء كل عام ببلد عربى وآخر غير عربى لكان المردود الثقافى أكبر فى التفاعل والحوار بين العرب والغرب.
وتأتى أسعار الكتب لتشكل أكبر عائق لا يمكن اجتيازه فى ظل ارتفاع الأسعار مما يجعل الكتاب فى غير طاقة من يريده خاصة فى المراجع العلمية وحتى الكتب المعرفية أو الأدبية وغيرها
ومن هنا تأتى مبادرة المليون كتاب التى أعلن عنها وزير الثقافة على المستوى المحلى وتدشنها وزارة الثقافة خلال فعاليات المعرض، والمبادرة تعنى كما يقول وزير الثقافة د.أحمد هنو: «نهدى مصر مليون كتاب فى مختلف المجالات المعرفية والثقافية، لنصل إلى جميع الفئات العمرية، ونسعى من خلالها لنشر الوعى وتعزيز ثقافتنا الوطنية».. وسيتم توزيع الكتب على الوزارات والمؤسسات المعنية ببناء الإنسان ونشر الوعي، ومن بين هذه الجهات: «وزارة التربية والتعليم، وزارة التعليم العالى والبحث العلمي، وزارة الشباب والرياضة، وزارة التضامن الاجتماعي، جامعة الأزهر، الكنيسة المصرية، نقابة الصحفيين»، وسيشهد معرض القاهرة الدولى للكتاب تنظيم احتفالية ثقافية كبرى حيث سيتم توزيع كتب المرحلة الأولي.. و»المليون كتاب» خطوة إستراتيجية نحو نشر المعرفة فى كل ربوع مصر، وإثراء المجتمع المصرى بمحتوى ثقافى ومعرفى ثرى.