عاصمة «النور» تتخبط فى ظلام السياسة والاقتصاد
فى 7 ديسمبر الماضى حضر زعماء عشرات الدول احتفال إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام فى باريس عاصمة فرنسا.. بدت المدينة فى أبهى حلتها من بعد ما عاد للكاتدرائية رونقها الذى دمره حريق 2019.. نجحت فرنسا فى إتمام ترميم المبنى الضخم على ضفة نهر السين فى الموعد وبالمال المقدرين لها؛ هذا يصعُب أن يحدث فى دولة أخرى بالكفاءة نفسها. لكن على مسافة كيلومترات يسيرة من الكاتدرائية، ثمة مبانى الحكومة والبرلمان وفى أروقتها أزمة سياسية عميقة لم تر فرنسا مثلها منذ عشرات السنوات.
أقال البرلمان الحكومة فى 4 ديسمبر. وكان رئيس وزرائها، ميشيل بارنييه، قد حاول اعتماد ميزانية عام 2025 من قبل بيومين، لكنه كابد الواقع القاسى بلا أغلبية برلمانية تؤازره حتى فقد منصبه فى سحب للثقة، فأصبح أقصر رؤساء وزراء الجمهورية الخامسة عمرًا. أراد بارنييه بميزانية العام القابل تقليل العجز البالغ نحو 190 مليار دولار، بتوفير 60 مليار دولار وباستحداث ضرائب على الأغنياء قيمتها 20 مليار دولار. لكن البرلمان رفض. ففى اتفاق سياسى مريب، تحالفت مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطنى اليمينى المتطرف، مع تحالف يسارى يهيمن عليه جون لوك ميلونشون، لخنق تيار الوسط الذى ينتمى إليه بارنييه.
ثم جاءت من بعد بارنييه حكومة أخرى فى 13 ديسمبر ألّفها فرنسوا بايرو (تيار الوسط أيضًا). هذا رابع رئيس وزراء فى سنة 2024 وحدها، والسادس فى عهد رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون منذ ولايته الأولى فى 2017 إنه مؤشر على التخبط السياسى الذى تعيشه فرنسا. فقدت أحزاب الوسط الراسخة موقعها، استوى فى ذلك يسارها ويمينها، وفشلوا واحدًا تلو الآخر فى حل مشكلات البلد الراسخة كرسوخهم، مثل ضبط الميزانية وشيخوخة السكان وضعف الأمن القومي؛ أما الخطاب السياسى الصارخ الخارج من تلك الأحزاب فلا يؤدى إلا إلى تسريع التطرف وتصعيب الحل، والنتيجة هى الجمود السياسي.
فمع عدم وجود حزب أو تحالف يقترب من الأغلبية فى الجمعية الوطنية (أحد مجلسى برلمان فرنسا)، يًرجح أن تشهد فرنسا تعاقب حكومات أقلية قصيرة الأجل لن تحقق إلا أقل القليل. وبما أن ماكرون أقام انتخابات مبكرة غير محسوبة منذ 6 أشهر فقط، فلا يجوز لفرنسا إجراء انتخابات جديدة حتى يوليو من العام المقبل، وحتى حينها، لا ضامن بأن أى حزب أو ائتلاف سيفوز بالأغلبية.
ورغم إقرار البرلمان قانونًا لأول مرة بترحيل موازنة 2024 إلى 2025 لتجنب الإغلاق الحكومي، فسيصعب أى إصلاح فى ظل تلك الأزمة السياسية والمالية التى تعصف بثانى اقتصاد فى منطقة اليورو..شعب فرنسا نفسه يهرب من مواجهة أزمة الاقتصاد. فحكومة فرنسا كغيرها فى بلاد أوروبا تعانى منافسة شرسة مع أمريكا وآسيا، وهى تبذر فى إنفاق المال ولا يمكنها تعويضه. بل إن خطة بارنييه لم تهدف إلا إلى تقليل العجز من 6 ٪ إلى 5 ٪ من الناتج المحلى الإجمالي. ومع ذلك، عدّ اليمين واليسار ذلك كثيرًا ولم يسعوا إلا إلى تأليب الشعب على حكومتهم سعيًا وراء السلطة.
من الصعب رؤية حل لهذه الأزمة. حتى يقتنع الناخبون بأهمية ترشيد الإنفاق بدلًا من الاستماع إلى السياسيين المتطرفين الذين لا يعدونهم إلا غرورًا، لا سيما وأن اقتصاد فرنسا لا ينمو إلا بما يقرب من 1 ٪ فى العام، هذا وإن لم يكن سيئًا قياسًا بمنطقة اليورو، فهو ليس كافيًا لتخفيف مشكلة الميزانية.
بلغ الدين العام لفرنسا 110 ٪ من الناتج المحلى الإجمالي؛ وللسخرية فقد اعتاد شمال أوروبا مثل فرنسا على السخرية من دول الجنوب، البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا لتبذيرهم المال بلا حساب. تدور الأيام وتصبح فرنسا ما كانت تسخر منه فى حين أن دول الجنوب تلك أصلحت من نفسها كثيرًا.
جزء من مشكلة فرنسا يقع على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حيث يتوعد رئيس الولايات المتحدة المنتخب دونالد ترامب أوروبا بفرض جمارك على جميع صادراتها إلى أمريكا بنسبة 10 ٪ أو 20 ٪، وسيطالبها بزيادة إنفاق الحكومة على جيوشها، خاصة فى ظل تخوف أوروبا من حرب أوكرانيا وتهديد ترامب أوروبا بالتخلى عنها فى مواجهة روسيا وحيدة توفيرًا لمال الأمريكيين من إنفاقه فى حرب تدور رحاها فى أوروبا!