بين الآباء والأبناء مسافات يعجز كثير من الطرفين عن اجتيازها وصولًا للآخر.. هناك فرق أجيال يتجدد مع كل جيل وفجوة تتمدد بين جيل عاش الحياة بطموحها وآلامها وجيل يستقبل الحياة ولا يدرى كثيرًا من خباياها ومصاعبها.. أفكار تتصارع وطباع تختلف وعقول ترى الدنيا بمنظار مختلف.. آباء ينسى كثيرٌ منهم أنهم كانوا يومًا ما أطفالًا صغارًا تتعارض رغباتهم مع الآباء فيتذمرون من طلبات الآباء وأوامرهم، وأن أبناءهم خلقوا لزمان غير زمانهم.. وأبناء يتغافلون عن حقيقة مهمة وهى أنهم وما يملكون لآبائهم.. وسرعان ما تتبدل المواقف وتتغير المواقع ويجد الأبناء أنفسهم وقد صاروا آباء يقفون أمام أولادهم يحاولون رسم ملامح الحياة لهم، يملون عليهم ما يجب فعله وما ينبغي تركه حبًا لهم وخوفًا عليهم، وليس تجبرًا ولا تسلطًا كما يفهم كثير من الأبناء– عليهم.
ويغيب عن أذهان معظم الأبناء، أنه سيأتي يوم قريب أو بعيد يقفون فيه أمام أولادهم، يفرضون عليهم ما يرونه – أنسب– لهم في كل شيء، ويحددون لهم الخطأ والصواب، ويقسون عليهم أحيانا دون أن يدروا من قسوتهم شيئًا.
يا لها من مفارقة عجيبة..لكن الأعجب أن الأبناء إذا فقدوا آباءهم استعادوا شريط ذكريات حياتهم معهم، ويتمنى كثيرٌ منهم أن يعود أبوه يومًا واحدًا للحياة فينكب على يديه وقدميه يقبلها؛ عرفانًا بفضل جحده أثناء حياته، أو تكفيرًا عن عقوق أفلت منه يومًا تجاه أبيه الذي لم يكن يحب في دنياه شيئًا أكثر من حبه لأولاده؛ فهو الوحيد الذي يتمنى أن يصيروا أفضل منه حالًا ومآلًا حتى لا يعانوا ما عاناه في حياته..لكن مَن مِن الأبناء يدرك ذلك إلا ما رحم ربي..؟!
ما أسرع مرور الأيام، وتسابق السنوات وتغير الملامح وتبدل الأفكار والمواقف..وما أصعب الفجوة بين الآباء وأبنائهم..وهى فجوة قد تكون عمرية أو ثقافية أو فكرية أو اجتماعية وقد ساعدت التكنولوجيا والسوشيال ميديا في تعميق تلك الفجوة لا سيما في ظل انشغال الآباء في صراع الحياة وتدبير الأقوات مع تدفق موجات الغلاء وتراجع القيمة الشرائية للدخول، وانحسار الدور التربوي للأسرة والمدرسة حتى صار جيل الشباب يواجه بحرًا متلاطمًا من الأفكار والرغبات والتحديات، وما يسببه ذلك من ضغط نفسي كبير، وهو ما يعنى أننا في حاجة كبيرة لمضاعفة الجرعات التربوية والتوعوية والمزيد من التفهم لمعاناتهم وإدارة حوار بناء معهم والكف عن انتقادهم أو التقليل من شأنهم للوصول إلى الدفء الأسرى والصلاح المنشود.
وفي كل الأحوال.. ثمة حقائق ينبغي ألا تغيب عن كل الأجيال مهما تتبدل الأزمان..!!
للآباء والأمهات منزلةٌ لا يعادلها منزلة..فهم فوق كل منزلة؛ بدليل أن الله تعالى قرن عبادته بالإحسان إليهما فقال تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا..».
أما الأب فهو عماد الأسرة ورمز الأمان والحماية.. يكدّ ويتعب حتى يوفر لأبنائه متطلبات الحياة..!!
وهنا يحضرني سؤال طُرح على مجموعة من طلاب الماجستير بإحدى الجامعات.. ما هو الأب؟
الأجوبة اختلفت إلا جوابًا واحدًا استوقف المحاضر وأدمع عينيه.. يقول صاحب هذا الردِّ: الأب في صغرك تلبس حذاءه فتتعثر من كبر حذائه وصغر قدمك.. تلبس نظارته فتشعر بالعظمة.. تلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة.. يخطر ببالك شيءٌ تافهٌ فتطلبه منه..فيتقبل منك ذلك بكل سرور ويحضره إليك دون مِنَّة ..يعود الى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكا وأنت لا تدري كيف قضى يومه.. وكم عانى في عمله.
واليوم حين كبرت..فأنت لا تلبس حذاء أبيك؛ فذوقه قديم لا يروق لك ..كما لا تروق لك ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة..!!
كلامه أصبح لا يلائمك..وسؤاله عنك تراه تدخلًا في شئونك وذلك أيضًا لا يروق لك.
حركاته تشعرك بالحرج.. وكلامه قد يصيبك بالاشمئزاز ..!!
إذا تأخرت قلق عليك ثم عاتبك على التأخير حين عودتك للمنزل لكنك بدلًا من أن تمتن لخوفه عليه تشعر بالضيق وتتمنى لو لم يكن موجودًا لتكون أكثر حرية .. رغم أنه لا يريد سوى الاطمئنان عليك.
ترفع صوتك في حضرته وتضايقه بردودك وكلامك..فيسكت ليس خوفا منك، بل حبًا فيك وتسامحا معك ..!!
إن مشى بقربك محدودب الظهر.. لا تمسك يده فلقد أصبحت أنت أطول منه ..!!
أنت بالأمس كنت تتلعثم بالكلام، وتخطئ في الحروف فيضحك مبتسمًا ويتقبل ذلك برحابة صدر.. واليوم أنت تتضايق من كثرة تساؤلاته واستفساراته بعد أن أصابه الصمم أو العمى لكبر سنه ..!!
أبوك لا يتمنى لك الموت أبدًا لا في صغرك ولا في كبرك .. لا في عنادك ولا في جحودك…. وأنت تتمنى له الموت..فلقد ضايقك في شيخوخته وقد يضايق من معك أيضًا..!
أبوك تحملك في طفولتك … في جهلك … في سفهك … في مرضك.. في دراستك… في عوزك… في فاقتك ..في شدتك … في رخائك.. تحملك في كل شيء فهل فكرت يومًا أن تتحمله في شيخوخته ومرضه وضعفه واحتياجه إليك.
أحسن إلى أبيك تجد ذلك في ابنك.. اغتنم كل لحظة في حياته فغيرك يتمنى أن يدفع من عمره حتى يراه يومًا أو بعض يوم..!!
انتهت إجابة الطالب البار بأبيه.. ويبقى أن للأب فضلًا لا يعدله فضل؛ ويكفي ما قاله رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: « لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» يقول النووي في شرحه للحديث: « أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه».
إننى ما زلت أذكر ما كانت أمي تقوله لنا دائمًا: اضحكوا في وجه أبيكم عندما يعود إلى البيت، فالعالمُ في الخارج مكانٌ موحشٌ يحطم الآباء مثل الأواني الفخارية، وكنا نقف عند الباب ننتظره بابتسامتنا التي تشبه القوارب الصغيرة.. رحم الله أبي وأمي جزاء ما قدماه لي ولإخوتي من تضحيات وتفانٍ لا أستطيع أن أوفيهما حقهما.