هناك فارق كبير وضخم بين ضروريات المعرفة وبين سلوكيات الفضول، فالجميع يريد أن يعرف والسلام، سواء أكانت المعرفة ضرورية وحتمية لطالبها أو كانت رفاهية ويغلب عليها الفضول المعرفى كما فى كثير من الأحيان، لكن الغريب أن هناك فصيلاً ثالثاً أو جديداً لا يريد ان يعرف، إما كسلا أو تغافلا أو تعففا أو جهلا، لكن كثيرين يقفون باختيارهم تحت مظلاتهم السوداء التى تحجب عنهم تسلل أشعة الشمس الدافئة، أوتحرمهم من حبات المطر المنعشة، هذه الأشعة وتلك الحبات ما هى إلا الحِكَم والحقائق والخطط والاستراتيجيات والعناوين الكبيرة والصور الكلية وفصل الخطاب فى كل أمورنا الحياتية، أشعر أن كلاً منا يحمل مظلته الخاصة ويضعها فوق رأسه ليحجب عن نفسه رؤية الحقيقة، بيد أنه يخشى المعرفة، فربما كانت تلك المعرفة منهكة ومخيفة، وربما كانت عكس التصورات الراسخة لدى الكثيرين، الناس عموما لا يحبون التغيير- أى تغيير – حتى تغيير الادبيات والمعتقدات والطبائع والأعراف والتقاليد، نحن نستوحش المجهول ولا نهوى التجارب الجديدة مهما كانت المغريات، حتى أحلامنا باتت مقيدة بحبل من مسد معلق فى رقابنا ومتصل بأقدامنا، فلا تصعد فوق رؤوسنا قدر أنملة ولا تبرح بعيدا عن موطئ أقدامنا، وعندما ننظر إلى أعلى سيكون سقف رؤيتنا هو تلك «المظلة السوداء» فنمل من النظر اليها ونتجه بأنظارنا فى بلاهة إلى أسفل حيث اللاشي! فما سر هذه المظلة؟ وما سر الخوف مما فوقها؟ وما هى حكمة التركيز فقط فيما تحت أقدامنا؟ لماذا لا نلقى بهذه المظلة بعيدا ونفتح أعينا نستقبل أشعة الشمس تارة ونتلذذ بحبات المطر تارة أخري؟ لماذا نعشق الاستكانة والجمود ونخدع انفسنا ونطلق عليه الاستقرار؟ لماذا نكره الأفكار الجديدة ونقاومها ونهاجم من يطرحها ونحاول ان نطرحه أرضا؟ إننا نعيش فى عالم لا يعرف الثبات ولا يؤمن بالجمود، عالمنا لا يطيق ان يبق الحال على ما هو عليه مهما كانت وجاهة هذا البقاء، لا أريد أن أغرق واستغرق فى أسئلة وتساؤلات استنكارية، لكننى احاول أن افتح أبواب النقاش وأطل منها على نوافذ الحل مستعينا لتحقيق ذلك الهدف باستفزاز العقل وخلق مساحات شخصية وفردية من التأمل، فأنا شخصيا أتساءل بينى وبين نفسى لماذا كان والدى رحمة الله عليه يردد دائما بعض الأمثال الشعبية على أسماعنا ونحن صغار كقوله «على أدّ لحافك مد رجليك» و»العين متعلاش عالحاجب» و«والمية متجريش فى العالى» و«اللى ملوش كبير يشتريله كبير» و«لف سنة ولا تخطى قنى» و«تجرى جرى الوحوش غير رزقك مش هتحوش» وأمثال عديدة من هذه النوعية، كان الوالد كريما بسيطا طيبا حسن المعشر والمنطق ولا يخوض مع الخائضين، فقط كان ينظر للدنيا من سم الخياط «ثقب إبرة» وكأنه لا يريد أن يراها، فكانت الأمثال والأقوال تصب فى اتجاهات متناقضة بعضها سلبى وبعضها إيجابي، كنت ارى ان اللحاف وان كان قصيرا فلماذا لا نجعله طويلا؟ ولماذا اكتفى بعدم مد قدماى احتراما لطول اللحاف؟ كنت أرى أن فكرة العين والحاجب تكرس مفهوم العبودية والسيد والمسود، وكنت أنظر إلى إمكانية أن تجرى المياه عكس الميل الطبيعى للأرض عن طريق انابيب ومواسير ضخمة، وكنت أتعجب من فكرة شراء الكبير لمن ليس له كبير، فالظروف جعلتك حرا طليقا وانت تعترض وتبحث لك عن سيد وكبير! بيد أن الكثير من الأمثال والحِكم تحتاج إلى إعادة نظر، كما أن الحفاظ والاحتفاظ بالمظلة السوداء تتطلب المزيد من النظر.