إن مصر على النقيض مما يذهب الدواعش والإخوان ومؤرخوهم فقراء العلم والتاريخ، وكما تؤكد الوثائق التاريخية المتاحة هى أصل الحضارات والعالم وهى منبع القيم الفاضلة ولم تمر على الدنيا حضارة مثلما مرت الحضارة المصرية قبل التاريخ المكتوب وبعده. صحيح أن بلادنا مرت عليها محن وداس فيها على غزاة كثر.. لكن بقيت حضارة مصر هى الرمز الشامخ وهى المعنى الذى على كل أبنائها أن يتعلموه ويأخذونه نبراسا وهديا. إن تاريخ مصر وحضارتها شغلت العالم أجمع ورغم المحن المتكاثرة إلا أن «حضارة مصر» تثبت وتبقي!
فى هذا السياق يحدثنا تاريخ الاثار والمخطوطات القديمة أن من أوائل من بحث غربيا فى تاريخ القيم والحضارة المصرية كان ثمة علماء أفذاذ ومنهم العالم الامريكى الاشهر «جيمس هنرى برستد» الذى ولد فى مثل هذا الشهر فى أغسطس 1865 وتوفى في2 ديسمبر 1935 له العديد من المؤلفات والاكتشافات الأثرية المصرية لكن كتابه الأكثر شهرة على الإطلاق هو كتاب «فجر الضمير» الذى أثبت فيه بالأدلة التاريخية والأثرية المؤكدة أن الحضارة المصرية القديمة هى مهد الأخلاق والقيم والحضارة ومنبعها الذى انتشرت منه إلى مختلف بقاع العالم.
ولد فى روكلفورو بولاية اللينوى وفى سن العشرين عمل فى مخزن أدوية وقد أشار عليه معلمه وصديقه وليم رينى هارير بالذهاب إلى برلين لكى يدرس علم الآثار المصرية على يد العالم الألمانى الكبير أدولف ارمان ولما أكمل رسالته للحصول على الدكتوراه عام 1894 دعى للانضمام إلى الفريق الذى كان يعد قاموسا للغة المصرية القديمة وكان معنى هذا أن يذهب إلى مصر وذهب فعلا عدة مرات.
> فى العام 1905عاد إلى مصر بعد عشر سنوات كان عمله الأساسى هو نقل نصوص منقوشة على بعض الآثار فى وادى النيل وشبه جزيرة سيناء وفى السنة اللاحقة عادت جمعية تمويل التنقيب عن الآثار الشرقية إلى تمويل فروعه وقد تبرع بمعظمها روكفلر الأب وفى هذه المرة غطت منطقة عمله الرقعة الممتدة على ضفاف النيل الأعلى والسودان غير أن الظروف المالية المضطربة ظلت تضايقه ولم تلق مشروعاته التى كان يديرها معهد بحوث شرقية أى نجاح ملحوظ ثم جاءت الحرب العالمية الأولى و قد قام بشراء آثار كثيرة لمتحف جامعة شيكاغو و قد نادى برستد بالحاجة إلى عمل فورى لإنقاذ الآثار و النقوش فى كل من المتحف المصرى ووادى النيل وقبل أن يرحل الى بارئه مباشرة وفى العام 1934 يتم نشر «فجر الضمير»!
فجر الضمير يقع فى 18 فصلاً تلم بالحضارة المصرية القديمة ولابد لكل مشتغل بها أن يعود الى «فجر الضمير» والذى ترجمه عالم الاثار المصرى الفذ د.سليم حسن فى سفر كبير فى يناير 1956 ثم توالت طبعاته اللاحقة ولندع د.سليم حسن يتحدث عن الكتاب الفذ وصاحبه المحب لكل ما هو مصرى يقول د.سليم حسن فى مقدمته لهذا السفر: لست مبالغا اذا قررت هنا ان خير كتاب أخرج للناس فى هذا العصر من ذلك الطراز هو كتاب «فجر الضمير» الذى وضعه الأستاذ «برستد» فى عام 1934 وهو فى الواقع مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل فى مصر شعر الانسان لأول مرة بداء الضمير، فنشأ الضمير الإنسانى بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية، وقد أخذ الأستاذ «برستد» يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلى أن أنطفأ قبس الحضارة فى مصر حوالى عام 525 قبل الميلاد، فمصر فى نظره حسب الوثائق التاريخية التى وصلتنا عن العالم القديم الى الآن، هى مهد حضارة العالم، وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ «برستد» قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة فى أذهان الكثيرين القائلة إن الحضارة الأوربية أخذت عن العبرانيين، على أن هذا الرأى لايزال يعتنقه بعض من لم يقرأ كتاب «برستد» إلى الآن، وكأن هذا الأثرى العظيم بكتابه هذا قد اظهر للعالم اجمع بأن المصدر الأصلى لكل حضارات الإنسانية هى مصرنا العزيزة ثم يقول د.سليم حسن.
لذلك يخيل إليّ أن «مصطفى كامل» حينما قال: «لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصرياً» كان يحس فى أعماق قلبه وفى دمه ما سيظهره الأستاذ «برستد» للعالم عما كان لمصر من السيادة المطلقة والقدم السابقة، فى تكوين ثقافة العالم، وفى وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذى شع على جميع العالم.
ولا غرابة فى إحساس مصطفى كامل بهذا الشعور، وبتلك العزة القومية والعظمة النفسية التى عزز صدقها «برستد» عام 1934وهو العام الذى ظهر فيه كتابه «فجر الضمير» فإن البلاد العريقة فى المجد كالشجرة المباركة الطيبة، تؤتى أكلها كل حين، وتنبت بين آونة وأخرى أفذاذاً تجرى فى دمائهم قوة العزة القومية والمجد التليد؛ فيشعرون بعظمة بلادهم، وما كان لها من تاريخ مجيد فتنطلق ألسنتهم معبرة عن ذلك بالإلهام المحض.
لقد قال «برستد» فى مقدمة كتابه: «إنه يجب على نشء الجيل الحاضر أن يقرأوا هذا الكتاب الذى يبحث فى تاريخ نشأة الأخلاق بعد بزوغ فجر الضمير فى العالم المصري»، لذلك نجد د. سليم حسن وكأنه ينظر الى عالمنا المعاصر فى عالم ما بعد الـ 2024 بعد غزة ومستقبلها.. بعد وفاته 1893-1961 يقول د.سليم حسن فى العام الذى ترجم فيه هذا العمل العظيم رأيت أنه إذا كان المؤلف يحتم على شباب العالم الغربى أن يقرأوا هذا الكتاب فإنه يكون من ألزم الواجبات على كل مصرى مثقف ان يستوعب ما احتواه لأنه تاريخ نشأة الأخلاق فى بلاده التى أخذ عنها كل العالم.
وإنى أرجو فى النهاية أن أكون قد قمت ببعض ما يجب نحو بلادى كما أرجو ان يهتم كل مصرى يحترم نفسه ويقدر منزلة بلاده بقراءة هذا الكتاب لعل فى ذلك باعثا لإحياء الماضى المجيد الذى لايزال العالم الغربى يرد مناهله صدقت يا أستاذنا العظيم…حفظ الله بلادى وحماها !