بعد استشهاد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس «في العاصمة الإيرانية طهران».. وبعد ما سبقه من هجوم علي «الضاحية الجنوبية في لبنان».. بعد هذين «الحدثين الكبيرين» وذهاب أصابع الاتهام مسرعة إلي «إسرائيل».. وجدت نفسي استعيد ما حدث داخل «الكونجرس الأمريكي» الأسبوع الماضي.. أثناء إلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابه «المثير» أمام «المشرعين الأمريكيين».
هالنى هذا الكم من (التصفيق الحاد) الذى استقبل به أعضاء (الكونجرس) الأمريكى كل ما جاء على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو خلال إلقاء خطابه أمامهم الأسبوع الماضى أثناء زيارته للولايات المتحدة والتى التقى فيها كبار القادة الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن ونائبته (مرشحة الرئاسة القادمة) كامالا هاريس والرئيس السابق والمرشح الرئاسي دونالد ترامب.. هالنى هذا (التصفيق الحاد) الاستثنائي الذى يرشحه البعض لأن يكون (الأول من نوعه فى التاريخ).. لم يكد يكمل (نتنياهو) جملة واحدة من جمل خطابه إلا وأعضاء (الكونجرس) يسارعون بالوقوف والتصفيق (الجنونى).. وفى كل مرة يزداد رئيس الوزراء الإسرائيلى ثقة وجرأة فى مواصلة (أكاذيبه وجرائمه)..الدعم والتأييد والاحتفاء الحار الذى يبديه (المشرعون)الأمريكيون يشجع نتنياهو على ذلك.
(التصفيق الحاد) الذى استقبل به أعضاء الكونجرس نتنياهو.. يمكن القول وبكل ثقة أنه بالفعل (حدث غير مسبوق).. لم يشهد المكان مثله حتى مع أى رئيس أمريكى من قبل.. كما لم يحدث تصفيق شبيه له لرئيس وزراء إسرائيلى فى أى وقت مضى حتى داخل (الكنيست )!!.. الاحتفاء الأمريكى (الرسمى التشريعي)بنتنياهو وخطابه بهذا الشكل يزيل أى التباس يمكن أن يتولد لدى بعض الناس حول الدعم الأمريكى المطلق لإسرائيل فى كل زمان ومكان!!
توقفت كثيرا عند الإدعاءات والمغالطات والأكاذيب التى روج لها نتنياهو فى خطابه بالكونجرس بدون أدنى (ذرة خجل).. وصف نتنياهو إسرائيل بأنها دولة حضارية وجيشها (قاتل الأطفال بإقرار الأمم المتحدة) جيش حضارى .. ادعى نتنياهو أن فلسطين هى أرض إسرائيل.. أعلن صراحة أن القدس (عاصمة أبدية) لإسرائيل ولن يتم تقسيمها.. القدس حيث القبلة الأولى.. المسجد الأقصى المبارك ثالث الحرمين الشريفين.. مسرى حبيبنامحمدصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..القدس قرر نتنياهو عدم تقسيمها واحتفاظ إسرائيل بها إلى الأبد!!.. رئيس الوزراء الإسرائيلى فى خطابه أمام الكونجرس اصطحب معه بعض الجنود الإسرائيليين بينهم (جندى مسلم)وآخر من أصول إثيوبية وراح يسوق (كذبا وزورا) أن دولته وجيشه تتسع للجميع وأن أصحاب الأصول والديانات المختلفة يدافعون جميعا عن (إسرائيل) الحضارية الديمقراطية.. قال نتنياهو أيضا إن جيشه فى الحرب على غزة لم يقتل مدنيا واحداً.. وكأن مجازر الأطفال والنساء والنازحين تحدث فى عالم آخر.. هو يكذب ويعلم أنه يكذب.. والكونجرس يصفق وأعضاؤه يعلمون جيدا أن نتنياهو يكذب.. لكنهم يصفقون!!
قبل خمسين عاماً من إلقاء نتنياهو خطابه أمام أعضاء الكونجرس الأمريكى..وبالتحديد فى نوفمبر (1974) كان هناك خطاب آخر أحدث دويا فى العالم لكن بشكل آخر.. ليس بطريق الإدعاء والكذب والترويج لمشاريع استعمارية صهيونية استيطانية عنصرية وإنما عن طريق سرد حقائق التاريخ والجغرافيا حول قضية شعب تحالفت كل قوى الشر ضده من أجل اغتصاب أرضه..إنه الخطاب التاريخى الذى ألقاه الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات (أبوعمار) عندما دعته (الأمم المتحدة) لإلقاء كلمة منظمة التحرير الفلسطينية أمام الجمعية العامة..وكان ذلك خطابا تاريخيا بكل معانى الكلمة يكشف بالوثائق جانبا مهما من جونب الصراع ببن (الحق) العربى و(الباطل) الصهيونى.. لقد تحدث ياسر عرفات فى ذلك الخطاب عن (أصل) القضية الفلسطينية.
وجدت فى (خطاب أبوعمار) الذى ألقاه قبل ما يقرب من (نصف قرن) أمام ممثلى دول العالم من فوق (منصة الأمم المتحدة).. (ردا تاريخيا استباقيا) على كافة الإدعاءات والافتراءات التى ملأت (خطاب نتنياهو) الذى ألقاه الأسبوع الماضى أمام (المشرعين الأمريكيين)!!.. تحدث الرئيس الفلسطينى الراحل فى ذلك الخطاب عن (قضية الشعب الفلسطينى) من جميع الجوانب.. التاريخية والجغرافية والإنسانية والدينية.. لم يترك عرفات فى ذلك الخطاب بعدا واحدا من أبعاد (القضية) إلا وتناوله بما فى ذلك (تاريخ الصهيونية) الحافل بالإجرام والقتل والمذابح فى حق العرب والفلسطينيين.
أعرض هنا بعض (الفقرات) التى تضمنها خطاب ياسر عرفات (فى الأمم المتحدة) والتى كان بها رد شاف على (أكاذيب) رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو والتى حاول تسويقها (داخل الكونجرس) الأمريكى وسط عاصفة من التصفيق تكاد لم تنقطع طوال تدفق هذه الإدعاءات والافتراءات على مدى (ما يقرب من الساعة) هى المدة التى استغرقها إلقاء خطاب نتنياهو.. قال الزعيم ياسر عرفات فى خطابه للعالم من مقر (هيئة الأمم المتحدة) قبل نحو خمسين عاماً: إن فلسطين كانت مهداً لأقدم الحضارات والثقافات، استمر شعبها العربي ينشر الخضرة والبناء والحضارة والثقافة في ربوعها طوال آلاف السنين، ويرفع لواء التسامح العربي ضارباً المثل في حرية العقيدة، وحارساً أميناً على مقدسات جميع الأديان في وطنه..وإننى كأحد أبناء (بيت المقدس) احتفظ لنفسي ولشعبي بذكريات جميلة، وصور رائعة، عن مظاهر التآخي الديني التي كانت تتألف في مدينتنا المقدسة قبل حلول (النكبة) بها، ولم ينقطع شعبنا عن ذلك إلا بعد تمكن (الغزوة الصهيونية الهمجية) من إقامة (دولة إسرائيل) وتشريده، ولكنه مازال مصمماً على الاستمرار في أداء دوره الحضاري والإنساني على أرض فلسطين، ولا يسمح بأن تتحول هذه الأراضي إلى بؤر للعدوان على الشعوب، وإلى معسكر عنصري ضد الحضارة والثقافة والتقدم والسلام.ولهذا، فإن شعبنا لا يستطيع إلا أن يواصل تراث أجداده في الكفاح ضد الغزاة، وأن يحمل شرف المسؤولية في الدفاع عن وطنه، وعن أمته العربية، وعن الثقافة والحضارة ومهد الديانات السماوية.
وقال عرفات فى موضع آخر من الخطاب :إننانفرق بين اليهودية وبين الصهيونية، وفي الوقت الذي نعادي (الحركة الصهيونية الاستعمارية)، فإننا نحترم الدين اليهودي، لأنه جزء من تراثنا، وإننا نحذر اليوم من بروز هذه الحركة العنصرية، إن خطرها يتزايد ضد (اليهود) في العالم، وضد شعبنا العربي، وضد أمن العالم وسلامته، فالصهيونية لا تزال متمسكة بتهجير اليهود من أوطانهم، واصطناع قوميه عنصرية عدوانية لهم يستبدلون بها قومياتهم الأصلية، إننا ندعو جميع الشعوب والحكومات لمجابهة مخططات الصهيونية الرامية إلى تهجير مزيد من يهود العالم من أوطانهم، ليغتصبوا وطننا، وندعوهم في الوقت نفسه لنكمل سوياً للوقوف في وجه أي اضطهاد للإنسان بسبب دينه أو جنسه أو لونه.
ومن بين ما قاله الرئيس الراحل (أبوعمار) فى هذا الخطاب التاريخى أيضا: إن الجانب الذي يقف فيه حامل السلاح هو الذي يميز بين الثائر والإرهابي، فمن يقف في جانب قضية عادلة ومن يقاتل من أجل حرية وطنه واستقلاله ضد الغزو والاحتلال والاستعمار، لا يمكن بأي حال أن تنطبق عليه صفة الإرهابي، وإلا اعتبر الشعب الأمريكي حين حمل السلاح ضد الاستعمار البريطاني إرهابياً، واعتبرت المقاومة الأوروبية ضد النازية إرهاباً، واعتبر نضال الشعوب في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية إرهاباً، إن هذا هو الكفاح العادل والمشروع والذي يكرسه ميثاق هيئة الأمم، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ أما الذي يحمل السلاح ضد القضايا العادلة الذي يشن الحرب لاحتلال أوطان الآخرين ونهبهم واستغلالها واستعمارهم، فذلك هو الإرهابي الحقيقي، وأعماله هي التي يجب أن تدان، وينسحب عليه لقب (مجرم حرب) ذلك أن عدالة القضية هي التي تقرر عدالة السلاح.. إن الإرهاب الصهيوني الذي ارتكب بحق الشعب الفلسطيني لإجلائه عن وطنه واقتلاعه من أرضه مدون لديكم في وثائق رسمية، وزعت في الأمم المتحدة، ولقد ذبح الآلاف من أبناء شعبنا في قراهم ومدنهم، وأجبر عشرات الألوف تحت نار البندقية وقصف المدافع والطائرات أن يتركوا بيوتهم وما زرعوا في أرض أجدادهم، وكم من مسيرة أجبر فيها أبناء من شعبنا نساء وأطفالاً وشيوخاً على الخروج من دون زاد أو ماء، وأرغموا على تسلق الجبال، والتيه في الصحراء.
وخلال الخطاب (الوثيقة).. أكد الرئيس الفلسطينى الراحل على واحدة من (الهوايات الإجرامية المفضلة) لدى إسرائيل وهى (هدم منازل الفلسطينيين).. فهذه الهواية الإجرامية يشير الخطاب إلى أنها ليست وليدة حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل (الآن) على غزة وإنما تعود لبدايات نشأة الكيان الصهيونى وهى جزء رئيسي من قناعته الأيديولوجية والسياسته.. قال عرفات فى ذلك: إن الكوارث التي حلت عام (1948) بأهالي المئات من القرى والمدن في السهل والجبل، في القدس في يافا في اللد في الرملة في الجليل لا ولن ننساها، لن ينساها من عانى أهوالها لحظة بلحظة، رغماً عن التعتيم الإعلامي العالمي، الذي نجح في إخفاء هذه الأهوال، كما أخفى أثر (385) قرية ومدينة فلسطينية دمرت في حينه، وأزيلت من الوجود، كما أنه نسف (19 ألف) منزل على مدى السنوات السبع الأخيرة (أي ما يساوي تدمير مائتي قرية فلسطينية أخرى تدميراً كاملاً) والأعداد الضخمة من مشوهي الإرهاب والتعذيب ومن في السجون، لا يمكن أن يطمسه (التعتيم الإعلامي) لقد وصل إرهابهم إلى الحقد حتى على شجرة الزيتون، حتى على شجرة البرتقال، على شجرة البرتقال والزيتون في بلادي، والتي اعتبروها علماً شامخاً يذكرهم بسكان البلاد الأصليين، يصرخ أن الأرض فلسطينية؛ فراحوا يعملون على اقتلاعها، أو قتلها بالإهمال والتحطيب.
وفى إشارة بالغة الأهمية والدلالة تؤصل لمجازر الأطفال التى ترتكبها إسرائيل فى (حرب الإبادة) على غزة.. قال عرفات (قبل خمسين عام): ماذا يمكن أن يسمى تصريح غولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل الأسبق) عندما عبرت عن «قلقها من عدد الأطفال الفلسطينيين الذين يولدون كل صباح»، أنهم يرون في الطفل الفلسطيني والشجرة الفلسطينية، (عدواً يجب التخلص منه).. واستطرد أبو عمار: إن الإسرائيليين طيلة عشرات السنين وهم يتعقبون قيادات شعبنا الثقافية والسياسية والاجتماعية والفنية، بالإرهاب والقتل والاغتيال أو التشريد، لقد سرقوا تراثنا الحضاري، وفولكلورنا الشعبي، وادعوه لهم، ومدوا إرهابهم إلى مقدساتنا في مدينة السلام (القدس الحبيبة) وعمدوا إلى افقادها طابعها العربي المسيحي الإسلامي من خلال تهجير سكانها وضمها لدولتهم، ولا حاجة لأن نسترسل في ذكر المسجد الأقصى، وسرقة ثروات كنيسة القيامة، والتشويه الذي لحق بعمرانها وطابعها التاريخي، فالقدس بروعتها، وبالعبق التاريخي المسيطر عليها، تشهد لأجيالنا المتعاقبة التي مرت عليها تاركة في كل ركن من أركانها أثراً خالداً وبصمة حنونة ولمسة حضارية ونبضة إنسانية.
وقال عرفات فى إشارة أخرى تدحض (بالتاريخ) مزاعم نتنياهو: انني أعلن أهنا كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية،أننا عندما نتحدث عن آمالنا المشتركة من أجل (فلسطين الغد)، فنحن نشمل في تطلعاتنا كل اليهود الذين يعيشون الآن في فلسطين، ويقبلون العيش معنا في سلام ودون تمييز على أرض فلسطين.. انني بصفتي رئيساً لمنظمة التحرير، وقائداً لقوات الثورة الفلسطينية، أدعوا اليهود فرداً فرداً ليعيدوا النظر في طريق الهاوية الذي تقودهم إليه الصهيونية والقيادات الإسرائيلية، وهي التي لم تقدم لهم غير النزيف الدموي الدائم، والاستمرار في خوض الحروب واستخدامهم كوقود دائم لها.. إننى أعلن هنا أننا لا نريد إراقة نقطة دم يهودية أو عربية.. ولا نستعذب استمرار القتال دقيقة واحدة، إذا حل السلام العادل المبني على حقوق شعبنا وتطلعاته وأمانيه.. وفى نهاية خطابه قال ياسر عرفات عبارته الشهيرة التى وجهها لقادة وممثلى دول العالم من فوق منصة هيئةالأمم المتحدة: (لقد جئتكم بغصن الزيتون مع بندقية ثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.. الحرب تندلع من فلسطين والسلام يبدأ من فلسطين)..
بين كلمة ياسر عرفات في الأمم المتحدة قبل خمسين عاماً.. وخطاب بنيامين نتنياهو في «الكونجرس الأمريكي» الأسبوع الماضي.. يبقي «تفسير التاريخ» هو الأدق والأوضح.. سواء لما حدث في «طهران» و»بيروت» في الساعات القليلة الماضية أو ما ستشهده «المنطقة بأكملها» في الأيام المقبلة!!