على مدار ثمانية عشر شهراً لا يزال شبح الموت يحوم فوق غزة، تلك البقعة الصغيرة التى تحولت إلى جحيم مفتوح على مدارالساعة، فلا شيء فيها يشبه الحياة؛ الطرقات مغطاة بالغبار والركام والمنازل أصبحت مجرد هياكل سوداء متفحمة، فيما تفوح من الأزقة رائحة الموت والجوع والخوف، أطفال ينامون على أنقاض بيوتهم ويتوسدون أحلامًا سرقتها الحرب، وأمهات يطرقن أبواب المستشفيات المزدحمة بحثاً عن دواء أو غرفة خالية لكن دون جدوي.
خلف كل رقم فى إحصاءات الضحايا هناك قصة إنسانية تُروى بالدموع والصراخ وأسماء كانت تنبض بالحياة وعائلات تجتمع حول مائدة واحدة قبل أن تشتتها القذائف والركام، أكثر من 50 ألف فلسطينى فقدوا حياتهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى السابع من أكتوبر عام 2023 بينهم آلاف الأطفال، فى كل مرة يُعلن فيها عن هدنة يرتفع الأمل قليلاً لكن سرعان ما يتبدد تحت وقع القصف الإسرائيلى والجرافات التى تمحو ما تبقى من ملامح المدينة.
والآن فى خطوة تصعيدية جديدة صادق المجلس الوزارى الأمنى الإسرائيلى على خطة لإنشاء إدارة خاصة بـ»المغادرة الطوعية» لسكان غزة فى إجراء يراه الفلسطينيون والعالم محاولة جديدة لفرض التهجيرالقسرى وتفريغ القطاع من سكانه بعد أن جعلت الحرب الحياة فيه شبه مستحيلة، وهو ما رفضته مصر بشدة وحذرت من خطره وطالبت العالم بالتحرك لمنعه فإلى أين يذهب من ولد هنا وكبر ودفن أحباءه؟ كيف يطلب من شعب بأكمله أن يتخلى عن أرضه تحت تهديد القصف والتجويع؟
فى ظل هذه التطورات تبدو غزة أمام أخطر مرحلة فى تاريخها حيث لا تقتصر المعاناة على القصف والدمار بل تتسع لتشمل تهديداً وجودياً لسكانها، ومع استمرار الصمت الدولى تتزايد المخاوف من أن تكون هذه الحرب أكثر من مجرد جولة جديدة من العنف بل بداية لمخطط يسعى إلى إعادة رسم خريطة القطاع حتى لو كان الثمن دماء عشرات الآلاف من الأبرياء، حيث كثف الجيش الإسرائيلى غاراته الجوية العنيفة منذ ساعات فجر الاثنين الماضى إذ إنه قصف بقرابة ثلاثين غارة أهدافاً متفرقة فى محافظتى وسط القطاع وجنوبه، مستهدفاً منازل ومنشآت تجارية وسيارات مدنية وخيم نازحين ومساجد.
وأعلنت وزارة الصحة فى غزة أن أكثر من 855 فلسطينياً قتلوا منذ استئناف الضربات الإسرائيلية فجر الثلاثاء الماضى على قطاع غزة، مؤكدة أن المستشفيات استقبلت 61 قتيلاً خلال أربع وعشرين ساعة حتى صباح الاثنين.
الدكتور طارق فهمى أستاذ العلوم السياسية يكشف أن مصر تقدمت بمقترح جديد لتقريب وجهات النظر بين إسرائيل وحماس وهو مقترح جيد يبنى على أساسه أفكار خلاقة، حيث يجمع بين أفكار سابقة لخطة وقف إطلاق النار بالكامل فى المرحلة الثانية والثالثة، وإلى ما تم طرحه الآن وأنه يركز على أفكار مباشرة، مشيراً إلى أن حماس قبلت المقترح بتفاصيله لكن إسرائيل لا تزال تناور ولديها مشاكلها الداخلية وأزماتها البنيوية التى تدل على هزيمتها بالداخل.
وأضاف فهمى أن هناك جزءاً مما يجرى مرتبط بتقبل إسرائيل بهذه الأفكار وبداية مرحلة جديدة، وأن هذا المقترح الذى تقدمت به مصر يمضى نحو دفع القاهرة الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل لقبول المقترح والبناء عليه، موضحاً أن هناك اتصالات مصرية أمريكية على أعلى مستوى فى هذا السياق، وأن الدور المصرى هو دور مركزى ومحورى فى هذه القضية بما لديه من خبرات ورؤى وإمكانات يستطيع أن يتحرك فى هذا السياق ويعمل من خلال ذلك ومن خلال وسائل التقريب المتعددة وأنه يمكن البناء عليه فى إطار إذا قبلت إسرائيل.
كما يؤكد فهمى أن هذا لا يعنى عدم وجود عمليات عسكرية؛ لأنها تقوم بعمليات عسكرية حتى الآن، حيث اغتالت أكثر من عشرة عناصر رئيسة بالمكتب السياسى لحركة حماس وتقوم بقطع الإمدادات الداخلية والخدمات المدنية والأطقم الطبية لإنهاء وجود حركة حماس كأجهزة مدنية وخدمية وهذا هو مكمن الخطورة فى هذا التوقيت، لافتاً إلى أن الهدف من العمليات العسكرية هو تحسين شروط التفاوض لتتحرك إسرائيل فى مسارات معينة لضغط على حماس للقبول بالخيارات التى تخدم المصالح الإسرائيلية.. فهمى يعتبر وكالة التهجير الإسرائيلية وسيلة جديدة لمحاولة تنفيذ المخطط، لكن مصر كالعادة كانت سباقة فى التصدى للفكرة وفضحها وإعلان رفضها وهذا الموقف دفع العديد من الدول للتحذير من خطر هذه الوكالة.
اللواء عادل العمدة مستشار الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية يصف الوضع فى قطاع غزة جراء ما تفعله إسرائيل بأنه انتهاك صارخ لكل القواعد والحقوق الإنسانية لمحاولة الوصول بكل السبل لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وأن هناك ضغوطاً كبيرة على الدولة المصرية الداعم الأول والأساسى للقضية التى تعمل منفردة فى ظل ذلك للمحافظة على بقاء الشعب الفسطينى فى أرضه، مشيراً إلى أن المشهد ملتبس نتيجة الجرائم الإسرائيلية التى تنفذ بطريقة بشعة ضد الفلسطينيين العزل داخل القطاع، وأن المجتمع الدولى يغض الطرف عما يحدث فى غزة ولا يعول على إسرائيل ويتركها تعيش بفسادها وتعبث فى الأرض بكل القيم والمبادئ وتحول كل أراضى غزة إلى أراض محروقة فى ظل تلك الظروف الصعبة التى نعيشها، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تكيل بمكيلين وتسعى بشكل مقزز إلى ازدواجية المعايير وتفعل ما تريد لدعم إسرائيل شكلاً وموضوعاً وأنها تفعل عكس ما تصرح به دائماً عن الموقف الرسمى الذى ينبغى أن تتذرع به.
العمدة أكد أن إدانة مصر الشديدة لإعلان إسرائيل عن إنشاء وكالة تستهدف تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، هو رسالة واضحة بالرفض المصرى لهذه الوكالة وللفكرة نفسها وانتفاء أساس ما يسمى «المغادرة الطوعية» التى يدعى الجانب الإسرائيلى استهدافها من خلال تلك الوكالة، مشدداً على أن المغادرة التى تتم تحت نيران القصف والحرب وفى ظل سياسات تمنع المساعدات الإنسانية وتستخدم التجويع كسلاح يعد تهجيراً قسرياً وجريمة ومخالفة بموجب القانون الدولى والقانون الدولى الإنساني.
وأضاف أنه لابد فى ظل هذه المجازرالمستمرة والتعنت الإسرائيلى أن تكون هناك وقفة حازمة تجاه تلك الخروقات والاستفزازات الإسرائيلية المستمرة والتحلى بالجدية والحسم اللازمين لتطبيق مقررات الشرعية الدولية واستعادة حقوق الشعب الفلسطينى وعلى رأسها حقه فى تقريرمصيره وإقامة دولته المستقلة على خطوط الرابع من يونيه 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ما قاله فهمى والعمدة تؤكده اللجنة الدولية للصليب الأحمر كاشفة عن أن «تصعيد الأعمال العدائية فى غزة خلال الأسبوع الماضى كانت له آثار إنسانية كبيرة، حيث قتل مئات المدنيين وظل بعضهم مدفوناً تحت الأنقاض بينما ترك آخرون فى ظل تعثر إنقاذهم، وأن أوامر الإخلاء الجديدة والأعمال العدائية المكثفة تدفع الناس إلى الفرار دون أن يكون لديهم فهم واضح للمناطق الآمنة، وكثيرون ليس لديهم مكان آخر يلجأون إليه، وقد اضطر كثيرون إلى ترك خيامهم وممتلكاتهم»، وشددت على أن استئناف الأعمال العدائية والعنف يولد حالة من اليأس لدى جميع الأطراف.
وسط مشهد يغلب عليه الدمار والموت تظل غزة جرحاً مفتوحاً فى جسد الإنسانية، حيث تستمر آلة الحرب فى حصد الأرواح، ويواجه أهلها تهديداً وجودياً لا يقتصر على القصف والدمار، بل يمتد إلى محاولات التهجير القسري.
وبينما تتباين المواقف الدولية بين الإدانات الخجولة والصمت المطبق تبقى المعاناة اليومية للفلسطينيين شاهداًعلى عجز المجتمع الدولى عن وقف نزيف الدماء، ومع استمرار الغارات وتصاعد التحركات السياسية يبقى السؤال عالقاً: هل ستشهد الأيام المقبلة انفراجة تنهى المأساة، أم أن غزة ستظل أسيرة لحلقة مفرغة من العنف و المآسي؟