تبقى مقولة الرئيس السيسى الخالدة تعليقا على نصر المصريين العظيم فى العاشر من رمضان 1973م «اللى عملها مرة يقدر يعملها ألف مرة» دليل على قوة مصر وثباتها على المبدأ وأنها دولة وشعب قوى قادر على الانتصار فى أصعب الظروف. وهنا نروى إحدى تلك المرات التى انتصر فيها المصريون على اعتى قوة ظهرت فى التاريخ تقريبا وهم التتار.. ففى تاريخ الأمم لحظات فاصلة، تتوقف فيها الحياة بين السقوط أو البقاء، بين الهزيمة أو النصر، بين أن تكون أو لا تكون. ففى مثل هذه الأيام من عام 658هـ وتحديدا فى يوم 25 من شهر رمضان المبارك الموافق الثالث من سبتمبر عام 1260، وقفت مصر على حافة الهاوية، تتطلع إلى مستقبلها فى عين جالوت، حيث دارت واحدة من أعظم معارك التاريخ، والتى سطّر فيها المصريون بأحرف من نور انتصارهم على التتار، ليغيروا مجرى الأحداث، ويعيدوا للعالم توازنه بعد أن كان مهددًا بسيوف الغزاة.
ولا يخفى على احد كيف سقطت الخلافة الإسلامية فى بغداد على أيدى التتار.. ودمروا بلاد الشام ولم يستطع أحد الوقوف فى وجه التتار، حتى جاءت اللحظة الحاسمة عندما وقف المغول على أعتاب أم الدنيا.. ورغم أن مصر لم تكن فى أحسن أحوالها قبل عين جالوت، فقد شهدت البلاد اضطرابات سياسية وصراعات داخلية بعد وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب. كان الخطر يُحيط بها من كل جانب، وخاصة مع اجتياح التتار للشرق الإسلامى، حيث اجتاحوا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية فى مشهد مأساوى اهتز له العالم.
فى هذا الوقت العصيب، برز قائد فذ، رجل حمل على عاتقه مسئولية أمة بأكملها، إنه سيف الدين قطز، الذى تولى حكم مصر فى لحظة مصيرية، فكان لا بد من حسم الأمور، إما الاستسلام لهذا الطوفان القادم، أو الوقوف فى وجهه مهما كان الثمن.
كان الخيار الأصعب هو المواجهة، فقد كانت جيوش التتار تثير الرعب فى قلوب الدول والممالك الإسلامية، لكن قطز لم يكن ممن يقبلون بالاستسلام. وفى لحظة تجلت فيها عزة مصر وشموخها، قرر قطز رفض الإنذار الذى أرسله إليه التتار، ومزّق رسالة التهديد بيديه، وقال كلمته الشهيرة: «إذا أراد التتار حربًا، فنحن لها!»
كان هذا القرار بمثابة ميلاد جديد لمصر، ميلاد أمة قررت أن تحيا بكرامة، لا أن تستسلم للذل والخنوع. فبدأ قطز فى تجهيز الجيش، واستعان بالقائد الظاهر بيبرس، وأعاد تنظيم الصفوف، وخطب فى الجنود بروح العزة والإيمان، حتى باتت مصر كلها جسدًا واحدًا، يتأهب لخوض المعركة التى ستقرر مصير الشرق.
فى صباح يوم الخامس والعشرين من رمضان 658هـ – 3 سبتمبر 1260، وقفت الجيوش المصرية عند عين جالوت، فى سهل فلسطين، تترقب قدوم العاصفة، وعندما اندلعت المعركة، استخدم قطز تكتيكًا عسكريًا عبقريًا، حيث بدأ بيبرس بهجوم خاطف على مقدمة الجيش التترى، ثم تراجع كأنه ينسحب، فاندفع التتار خلفه فى مطاردة ظنوا أنها ستكون نهاية المصريين.
لكن المفاجأة كانت فى انتظارهم.. فجأة، خرج الجيش المصرى من كمينه، وأطبق عليهم من كل جانب، وارتفعت فى الأفق صيحة قطز الخالدة: «واإسلاماه!»، فهبت الجيوش بروح جديدة، وأصبح لكل ضربة سيف معنى، ولكل طعنة رمح ثمن، ولم تمر ساعات حتى تحول التتار إلى أشلاء، وتحققت المعجزة.. انتصرت مصر!
هذا الانتصار لم يكن مجرد ضربة حظ، بل كان ثمرة لأسباب عدة، منها:
1. القيادة الحكيمة: كان قطز قائدًا استثنائيًا، جمع بين الشجاعة والحكمة، واستطاع أن يوحد مصر ويعيد هيبتها.
2. التكتيك العسكرى الفريد: كانت خطة بيبرس وقطز فى استدراج التتار إلى الفخ من أذكى الخطط الحربية فى التاريخ.
3. الإيمان بالقضية: لم يكن المصريون يقاتلون من أجل الأرض فقط، بل كانوا يدافعون عن دينهم وهويتهم ومستقبلهم.
4. تضامن الشعب: لم تكن معركة الجيش وحده، بل كانت معركة أمة بأكملها، التف فيها الشعب خلف قائده، وصنعوا معًا النصر.
ولذلك فإن «عين جالوت» لم تكن مجرد معركة، بل كانت رسالة أبدية، رسالة تقول: عندما تتحد مصر، عندما يكون القرار فى يد قائد قوى، وعندما يدرك الشعب مسئوليته.. فإن النصر يكون حتمية تاريخية!
واليوم، وبعد أكثر من سبعة قرون، تبقى هذه المعركة شاهدًا على أن مصر لا تُهزم إذا قررت القتال، وأنها دائمًا قادرة على الوقوف من جديد، مهما كانت العواصف، ومهما اشتدت المحن.
لقد كانت عين جالوت يومًا انتصرت فيه مصر.. وانتصرت إرادتها.