كنا صغاراً.. وصغاراً جداً وقبل سنوات طويلة عندما اصطحبنا الوالد إلى المقابر صباح أول أيام العيد.. وذهبنا بامتعاض بالغ، فلم تكن زيارة المقابر من أولوياتنا فى ذلك الوقت.. كنا ننتظر «العيدية» وزيارات الأقارب لتجميع أكبر مبلغ من النقود يساعدنا فى تدبير نفقات المرح واللهو طوال أيام العيد ويساعدنا فى تحقيق حلم العمر بامتلاك دراجة.. وما أجمل وأروع هذا الحلم عندما كان امتلاك دراجة خاصة هو غاية الأماني.
وانشغلنا أمام المقابر بمراقبة الناس الذين أتوا لزيارة أقاربهم والترحم عليهم.. وفجأة توقفت عدة سيارات فارهة من أنواع مختلفة عما اعتدنا رؤيته.. وهبط منها رجل مهيب الطالع.. «باشا» مثل باشوات الأفلام.. وتبعه مجموعة من «الهوانم».. سيدات من نوع آخر تألقن فى ملابسهن السوداء وهن يحملن زهوراً لوضعها فوق إحدى المقابر.. واسترعت وقفتنا الطفولية التى تتابع المشهد انتباه الباشا الذى تقدم نحونا مبتسماً وقد أخرج من طيات ملابسه حافظة مليئة بأوراق البنكنوت الجديدة وأخرج منها عدة جنيهات قام بمنح كل طفل منا جنيها كاملاً.. وطبع قبلة فوق رأس كل واحد منا وانصرف..!! ولم تتحرك أقدامنا من السعادة.. كان الجنيه فى أيدينا «عيدية» لم تخطر على البال وليست فى الحسبان.. الجنيه فى ذلك الوقت كان ثروة وكان وجوده معنا عنوانا على أن هذا العيد سيكون أسعد الأعياد.. وتحولت زيارة المقابر فجأة إلى يوم من الأيام التى لا تنسي.. فقد قابلنا «الباشا» فؤاد سراج الدين نفسه ومنح كل واحد منا جنيها كاملاً.. ويا له من عيد.. ويا له من جنيه.. ويا لها من ذكرى ستظل عالقة فى الأذهان والعمر كله.
>>>
وتمضى الأعوام.. وتأخذنا الدنيا والأقدار إلى حيث تريد.. واختار طريق الصحافة.. والدراسة بكلية الإعلام.. وأذهب بتكليف من الراحل محسن محمد رئيس تحرير الجمهورية لتغطية أخبار انعقاد أول مؤتمر لحزب الوفد الجديد بعد أن سمح الرئيس أنور السادات بالتعددية الحزبية وعودة الأحزاب فى عام 1978 «ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين».
وكان المؤتمر فى نقابة المحامين بالقاهرة.. وقد اكتظت القاعة عن آخرها «بالباشوات» وبقايا حزب الوفد القديم الذين عادوا للحياة والاستماع إلى خطاب «الباشا» فؤاد سراج الدين.
وجلست فى القاعة أحاول أن أكتب شيئاً مما يقال، فلم أجد إلا أننى كنت مشدوها لا أرى ولا اسمع إلا الرجل صاحب «الجنيه» وهو يتألق فى خطاب استغرق عدة ساعات ولا يتخلله إلا التصفيق الحار وهتافات الحاضرين.. ونموت نموت ويحيا الوفد.
وأحاطوا بالباشا بعد انتهاء المؤتمر.. عشرات وعشرات التفوا حوله شيوخاً وكباراً وشباباً.. كانت «كاريزما» الرجل طاغية، وكان وجوده فى المكان حدثاً يستحق التسجيل.. ولم يردعنى شيء عن الوصول إليه.. لم توقفنى العضلات التى أحاطت به عن الاقتراب منه.. ويا باشا.. يا باشا أريد التحدث معك.. دقيقة واحدة لو سمحت.. وتوقف الباشا قائلاً.. لقد قلت كل ما لديَّ فى خطابي.. ولا يوجد ما أتحدث به للصحافة..! ويا باشا.. هذا موضوع آخر حان الوقت لكى أشكركم عليه.. يا باشا.. هل تذكرون أطفالاً صغاراً أسعدتموهم قبل عدة أعوام «بعيدية» العيد.. يا باشا.. الجنيه الأخضر لا يزال فى جيبي.. يا باشا الأطفال لا ينسون أبداً من يحنو عليهم.. ومن يبتسم فى وجوههم.. فما بالك بمن يقدم لهم «عيدية» وعيدية سخية.
>>>
والباشا ابتسم.. فؤاد سراج الدين بوجهه المميز كان يهتز فرحاً وخجلاً أيضاً.. كان يشعر بسعادة طفولية انتقلت عدواها إليه.. كان يشكرنى على تذكيره بالواقعة.. لمحت فى عينيه بريقاً جميلاً فى حديث كان بعيداً عن السياسة ولكنه كان الحديث الأهم.. حديث الحياة.. فما السياسة إلا لحظات وقتية فارقة فى حوارات لا تنتهى حتى تبدأ من جديد.. أما الحياة فهى اللحظات التى نعيش عليها ولا تموت داخلنا أبداً لتمنحنا القدرة على المقاومة، والقدرة على الاستمرار.. والقدرة على امتصاص الأزمات.. والقدرة على أن نثق دائماً بأن الدنيا بخير ولو خليت من أهل الخير لخربت.
وحين استعيد هذه الذكريات مع بداية أيام عيد الفطر المبارك.. فإننى أدعوكم إلى أن يكون عيداً للفرحة.. اجعلوا منه مناسبة لكى يسعد الجميع.. ادخلوا البهجة على قلوب الأطفال.. اجعلوهم يدركون ويعرفون معنى العيد الذى أتى بعد شهر الصيام.. وزوروا أقاربكم.. ومعارفكم وأصدقاءكم.. عودوا إلى الحياة بعيداً عن التهنئة من خلال الرسائل النصية والواتس آب.. اسمعوا صوت من تحبون.. تصالحوا مع أنفسكم ومع الآخرين.. العيد ذكرى حلوة ووقفة مع النفس لإصلاح ما أفسده الدهر.. وكل عام وأنتم بخير.. وارقد فى سلام «يا باشا».. فقد أعطيتنى ذات يوم جنيهاً.. ومنحتنى اليوم موضوعاً أيضاً لمقال..!
>>>
ورغم أن حديث الأعياد ينبغى أن يخلو من حوارات المشاكل إلا أننى أتحدث فى قضية رياضية تتمثل فى بالاعتداء بالأيدى الذى تعرض له الحكم المصرى محمد معروف بعد إدارته لإحدى المباريات الأفريقية فى كرة القدم حيث توجه لاعبو الفريق الخاسر بكل رعونة وخروج عن الروح الرياضية إلى الحكم واعتدوا عليه بالضرب من أكثر من لاعب.
إن الاتحاد الأفريقى لكرة القدم عليه أن يتخذ إجراء حاسماً قوياً لعقاب الذين انتهكوا كل القواعد الأخلاقية الرياضية فى مشهد غير حضارى وغير رياضى يعكس غروراً وصلفاً يتجاوز كل الحدود.
ونقول فى ذلك إن الوقفة القوية لاتحاد كرة القدم المصرى ومساندته للحكم بطلب التحقيق فى الواقعة يجب أن يكون مقترناً بخطوات لتكريم الحكم الشجاع الذى وقف وحده يدافع عن نفسه أمام تهور اللاعبين.. والكرة فى ملعب الاتحاد الأفريقى لكرة القدم الآن.. وعليه إنقاذ اللعبة فى القارة السوداء قبل أن تنهار بطولاتها.. ويصبح الاعتذار عنها أفيد وأكثر أماناً وسلاماً.
>>>
ونستودعك يا الله.. دعوات رجوناها طوال شهرك المبارك ونستودعك أحلامنا وآمالنا أن تحققها لنا وحياتنا أن تجعل فيها ما هو خير لنا، اللهم بشرى منتظرة تغير كل شيء.. ويارب لا نخرج من رمضان إلا ودعواتنا مجابة وقلوبنا مجبورة وأمورنا ميسرة.. آمين.