قهوة الصباح
منذ أن كتبت عن الصراصير وهى تحوم حولى بالحجرة فى ألفة وبدون كلفة، ولست أدرى ما سر اهتمامى بالحشرات ؟ إلا أن يكون بى عرق حى من قدماء المصريين، الذى كانوا يجمعون بين الحشرة والإنسان فى هيكل واحد؛ فهذا تمثال له رأس جعران وجسم إنسان!..
لا استطيع تخيل عمل فنى تخيلاً كاملاً.. لا بد لى من ركيزة، ولتكن صغيرة، من حقيقة أو واقع.. ولقد رأيت فى الواقع صرصارًا يكافح للخروج من حوض حمامي.. ما أروع منظر الإصرار على كفاح لا أمل فيه.
لا أريد أن أدخل هذه المسرحية فى نطاق المأساة أو الملهاة، إنها مجرد مسرحية وكفي.
>>>>>
لكن «الإصرار على كفاح لا أمل فيه» هو فى مفهومى جوهر التراجيديا.. وهذا المفهوم يجعلنى لا أتقيد بالتعريفات المألوفة؛ فليس الحزن ولا الكوارث ولا موت البطل بشرط عندى للتراجيديا؛ إنما الشرط أن تكون نهاية البطل نتيجة لصراعه مع قوة لا قبل له بها.. وعلى ذلك فإن «هاملت» تخرج عندى من نطاق التراجيديا لتدخل فى نطاق الدراما؛ لأن نهاية «هاملت» جاءت نتيجة طعنة من سيف مسموم، خارجة عن جوهر مأساته، وكان من الممكن أن لا تصيبه، وأن يعيش، وأن يحكم بلاده الحكم الصالح.. فى حين أن «عليل» تدخل عندى فى نطاق التراجيديا؛ لأن نهايته جاءت حتمية».
>>>>>
لم يكن الأديب الكبير توفيق الحكيم يعلم وهو يكتب هذه الكلمات من روايته الفكاهية.
«مصير صرصار» عام 1966، أنه بعد ستين عاماً سيكون الواقع المعاش قد فاق الخيال الذى ورد فى الرواية، أعود إلى الرواية البديعة التى استخدم فيها الحكيم نوعاً سردياً انتشر فى زمانه وهو الاختباء خلف حمار أو صرصار أو نملة، وكان هناك أسباب متفهمة لذلك أهمها ضيق مساحة حرية التعبير، فكان اللجوء إلى الترميز وكانت الغابة مكتظة بشخوص يمكن استبدالها بشخوص حقيقية، ويفتح الباب للخيال ان يفعل أفاعيله، هذا الترميز يدل على عظمة الأدباء والمفكرين فى هذه الحقبة الزمنية شديدة الثراء، أعود إلى الرواية التى كلما قرأتها خرجت منها بلآلئ جديدة.
>>>>>
فالواقع الذى يمر به العالم غير مسبوق تماماً، لقد فتشنا فى كتب التاريخ للبحث عن نموذج يشبهه فلم نجد، وقفنا على عتبة الحقيقة لكننا لا نجرؤ على التقدم خطوة إلى الداخل، فالحقيقة المجردة صعبة الاستيعاب لكنها غير عصية على الفهم، ونظراً لهذه الحالة الفوضوية النادرة التى يبتعد فيها المنطق عن المعادلة وينزوى فيها القانون بعيداً وتنتحب الأخلاق والمبادئ والقيم ويتحول العالم إلى ما يشبه الغابة، هذا التحول يستتبعه بالضرورة شيوع ثقافة الغابة وصحافة الغابة وإعلام الغابة، تخيل معى سياسة واقتصاداً وثقافة وإعلاماً وصحافة بلا أخلاق وبلا قانون وبلا مبادئ، كيف سيكون الوضع حينئذ، بيد ان قول الحقيقة عارية سيمثل هتكا لستر الباطل، وعبثا فى مواضع لا يجوز العبث فيها، من هنا جاءت لحظة الهروب إلى عالم توفيق الحكيم، حماره وصراصيره.