العصر الذى نعيش فيه بات مليئًا بالعجائب والخروج على ثوابت ظلت مستقرة على مدار عقود طويلة، وخرج ما كان يتناول ويناقش خلف الكواليس إلى المجاهرة والعلن، وتحولت المخططات والمؤامرات إلى مشروعات خيرية وإنسانية ووصفت الفوضى بالخلاقة وأصبحت الأوطان وأراضى الدول تباع وتشترى كأنها صفقات للبيزنس وتجاهلت حسابات بعض الساسة أى نوع من الإنسانية والأخلاقية ومدى ارتباط الإنسان بالوطن والأرض، وطفت على السطح جماعات إرهابية ترى أن الوطن ما هو إلا حفنة «تراب» فى بجاحة وكفر بفكرة الوطن وترابه، وقدسيته ووجوده والغريب أنه ظهرت ملامح هذا الفكر أيضا على لسان رؤوساء قوى عظمى فى العالم تعتقد أنه يمكن تبديل أرض الوطن بأرض وطن آخر وأن التضحية والمعاناة من أجل هذا الوطن أمور لا ينظر إليها بعين الاعتبار.
ما جرى فى لقاء الرئيسين الأمريكى دونالد ترامب والأوكرانى زيلنسكى فى ظنى لا يمت بصلة لمصطلح الدبلوماسية التى عهدناه مصطلحًا يعنى القدرة على الحل والوصول إلى توافق تكسب وتخسر، تأخذ وتعطى لكن أن يكون بالتراشق والسباب والمعايرات والاساءات التى تنتهى إلى اشتباك وطرد لا يمكن أن تكون دبلوماسية بل ملامح لنظام عالمى فقد صلاحيته وانهارت نظمه وقواعده، وسقطت مبادئه وأعرافه، فرغم أن الحرب الأوكرانية ــ الروسية أتمت عامها الثالث بعد أن اندلعت فى فبراير 2022 لا أدرى ما هى حساب الرئيس الأوكرانى زيلنسكى فى ايصال الأمور إلى الحرب أمام خصم قوى مثل روسيا، ولماذا هذا العداء واستدعاء أعداء روسيا وتهديد أمنها القومى، وهل كانت أهداف زيلنسكى لصالح أوكرانيا وشعبها أم لصالح التحالف الأمريكى الأوروبى فى عهد الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن من أجل استنزاف روسيا وتعطيلها وتصدير الثورات إلى داخلها وتهديد أمنها القومى وايقاع خسائر اقتصادية فادحة بها خاصة فى ظل آلاف العقوبات عليها وقطع بترولها وغازها عن أوروبا بعمليات مخابراتية والسؤال المهم، لصالح من تحارب أوكرانيا ضد روسيا؟ ولماذا الإصرار على الانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبى؟ ومن يدفع فاتورة انهيار أوكرانيا وخسائرها الفادحة؟ سواء الاقتصادية والعسكرية والبشرية وانهيار بنيتها التحتية ألم تكن هناك تحذيرات من داخل أوكرانيا نفسها من خطورة الصدام مع روسيا ولماذا؟ وما هى أسباب الدعم الأمريكى الأوروبى المطلق لأوكرانيا فى حربها ضد روسيا؟ وهل ربحت كييف؟ وما هى الأرباح؟ ثم ما الذى تغير فى أمريكا مع قدوم ترامب فى ملف الحرب الروسية ــ الأوكرانية؟ وهل ثمة علاقة بين ما حدث فى سوريا وسقوط نظام بشار الأسد وتحييد موسكو وخسارتها نفوذها؟ وهل كانت هناك صفقة فى الكواليس تشير إلى أن تغض روسيا الطرف عن سوريا وبشار الأسد مقابل انهاء أزمة أوكرانيا لصالح موسكو؟.
السؤال المهم هل زيلنسكى بعد 3 أعوام من الحرب مع روسيا والدمار الذى حصدته بلاده وبعد ما جرى فى البيت الأبيض من تراشق واساءات وطرد هل هو بطل قومى أوكرانى أم يستحق الاحالة إلى العدالة والتحقيق؟ وهل يمكن أن يكون ما حدث فى البيت الأبيض سببًا فى تحويله إلى بطل فى نظر الأوكرانيين؟ وغض الطرف عن الكوارث الاستراتيجية وتدمير بلاده وقتل شعبه؟ إنها تساؤلات مفتوحة فتحت شعارات العواطف وأوتار اللعب على البطولات الزائفة قد يتحول زيلنسكى إلى بطل قومى.. بعض من أصحاب التوقعات الخيالية والتحليلات الظنية يشيرون إلى أن ما حدث بين ترامب وزيلنسكى وثالثهما نائب الرئيس الأمريكى مجرد تمثيلية متفق عليها، لكننى لست مع هذا الطرح، خاصة ما قاله رئيس حلف الناتو من أنه اتصل بالرئيس الأوكرانى مرتين يطالبه بتحسين علاقته مع ترامب، ولكن العلاقات الأمريكية ــ الأوروبية باتت على المحك وإن كانت أوروبا تتراجع وباتت أقوال الزعماء الأوروبيين مجرد توصيات وفى النهاية سوف ينتصر ترامب، وبالتالى بوتين فى موسكو لكن السؤال المهم ماهى التنازلات التى ستقدمها روسيا من أجل انهاء الحرب مع أوكرانيا «لصالح روسيا»؟ بالطبع لن تكون التنازلات من الخزائن السياسية والاقتصادية الروسية لكن ربما تغض روسيا الطرف عن بعض المواقف تجاه قضايا فى العالم لتصب فى صالح التحالفات الأمريكية أو بمعنى آخر هل تريد واشنطن تحييد موسكو وإبعادها عن الصين مثلا، هل يريد ترامب وإدارته إبعاد روسيا عن الشرق الأوسط.. الأيام سوف تكشف الحقائق وما دار فى الكواليس مثل مقولة «سوريا مقابل أوكرانيا» والتى تعلن عن نفسها فى هذه الفترة.
هذا العالم بات غريبًا فمنذ 25 يناير تتصاعد حدة سقوط الثوابت والاعراف المستقرة فمع مطالبة مصر والاردن باستقبال الفلسطينيين فى قطاع غزة والضفة لتنفيذ مخطط التهجير بذرائع إنسانية، وأهداف اقتصادية واستثمارية تتوالى عجائب وطرائف النظام العالمى الذى بات شعاره لا شىء فى الخفاء ولا حديث خلف الكواليس، بل أمام الإعلام والعلنية والمجاهرة شعار هذا العصر، ولا خجل ولا حياء ولا حرج فى تنفيذ المخططات الشيطانية والتهام أراضى وحقوق الشعوب المشروعة، ولم يكن التهجير فحسب، ولكن مطالبات لكندا بأن تكون إحدى الولايات الأمريكية، والمكسيك وجزر الدنمارك وقناة بنما، فهل نحن أمام دبلوماسية الذراع والبقاء للأقوى وأن الأخلاق والقوانين والاعراف والمواثيق المستقرة لا شىء يهم لذلك دائمًا أقول، لا يجب على الدول والأوطان أن تراهن على أحد، الرهان الحقيقى على قدرة هذه الدول وشعوبها، ووعى شعوبها، وحسابات وتقديرات قادتها، وعدم المغامرة بدولها وأن القوة هى السبيل الوحيد لمنع العدوان والاطماع.. لذلك الحمد لله على نعمة مصر التى حباها المولى عزوجل بقائد عظيم صاحب رؤية وحكمة واستشراف للمستقبل كافح من أجل تمكين مصر من امتلاك أعلى درجات القوة والقدرة ورغم ذلك لم يغامر يومًا بوطنه أو شعبه ويمضى فى قيادة مصر وفق حسابات وتقديرات دقيقة. فالقوة والقدرة تزيد وتتراكم مع استمرار الاستقرار والابتعاد عن الصراعات فمصر حددت مبادىء ومعايير وخطوط حمراء لأمنها القومى، ومصالحها، وسيادتها، وحدودها خطوطًا حمراء لا تهاون فيها.