لفد غاب عن مجتمعنا مفهوم الإيجابية فى العمل وفى السلوك وانتشرت بدلا منه السلبية فى الردع للمخطئ وتنبيه الغافل بما يحقق التكامل المجتمعى والتناصح.. علماء الدين أكدوا ضرورة إحياء فريضة الإيجابية الغائبة داخل الإنسان وفى المجتمع المحيط به.
أكد د. مصطفى شيشى الباحث بالجامع الأزهر الشريف أن الإيجابية فريضة غائبة عن المجتمع وعن الفرد، فعندما خلق الله تبارك الإنسان وأسكنه الأرض ليكون خليفته فيها، طلب منه التخلق بصفات الإيجابية تجاه دينه ومجتمعه، بأن يكون المسلم فيضًا من العطاء قويًا فى البناء، ثابتًا وقت الشدائد، لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون، يصنع من الشمعة نورًا، ومن الحزن سرورًا، متفائلاً فى حياته، شاكراً فى نعمائه، صابراً فى ضرائه، قانعاً بعطاء ربه له، مؤمناً بأن لهذا الكون إلهًا قدّر مقاديره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
مضيفا: أن الإيمان بقيمة الإيجابية تجعل المسلم تفكيره منحصرا فيما يجلب له الأجر ويُقربه من الطاعة دون أن يكون تبعًا، وأن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون التفات إلى عمل أحد من الناس، وقد أرشدنا النبى صلى الله عليه وسلم إلى سلوك الإيجابية بقوله: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» كما أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الأسباب الرئيسية فى اللعنة التى أصابت بنى اسرائيل سلبيتهم المتمثلة فى عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
مشيرا إلى أن مقياس الخيرية للإنسان ليس بحجم العمل الذى يقدمه، ليكون إيجابيا وإنما مقياس الخيرية أن يقدم الإنسان أى عمل حتى وإن كان صغيرا لكنه يبذل فيه الجهد والطاعة، ولذلك وجدنا النبى صلى الله عليه وسلم يشجع الأعمال الصغيرة ويثيب عليها، ومثال على ذلك تلك المرأة التى كانت تقوم بتنظيف المسجد، فعندما افتقدها النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم سأل عنها فاخبروه بوفاتها فغضب النبى صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يخبروه بوفاتها وذهب لزيارة قبرها وصلى عليها النبى صلى الله عليه وسلم بعدما دفنت، موضحا أن خيرية الإيجابية أيضا لا تقاس بمدى استفادة الناس من العمل الذى تقدمه فحتى لو غلب على ظن الإنسان أنه لن يستفيد أحد من هذا العمل فعليه ألا يمتنع عن أدائه كقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إن قامتِ الساعةُ وفى يدِ أحدِكم فسيلة، فإن استطاعَ أن لا يقوم حتى يغرِسَها فليغرِسْها».
فيما أوضح الشيخ على السيد الواعظ بمجمع البحوث الإسلامية أن المتأمل فى القرآن الكريم يجد أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يجدون ويجتهدون فى الدعوة إلى الله تعالى بهمة عالية وإيجابية ملموسة، ويقفون بجوار المحتاج والفقير، ومن أمثلة ذلك قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الفتاتين وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم عضوا فعالا فى المجتمع فهو الذى رعى الأغنام وشارك فى بناء الكعبة المشرفة وشارك فى حرب الفجار وشارك فى حلف الفضول ولما هاجر شارك الصحابة فى بناء المسجد النبوى وفى حفر الخندق وإلى غير ذلك.
فيما أكدت د. منى نجم الواعظة بالأوقاف أن الإيجابية منهج ربانى كشفت عنه آيات القرآن الكريم فحينما تحدثت سورة النمل عن هدهد سليمان عليه السلام مثلاً رائعًا فى الإيجابية، ذاك الطائر الصغير فى حجمه الكبير، العظيم فى تفكيره، حين انفرد بعمل إيجابى أدخل أمة كاملة فى الإسلام، وما كان من سليمان عليه السلام أن يعلم بذلك لولا حركة الهدهد حين قام بعمل إعلامى عظيم فى نقل خبر ملكة سبأ، كما قَصَّ علينا خبر النمل فى حركته وحرصه على تحصيل طعامه، ومدى تعاونه، وسردت آيات القرآن علينا من نبأ النحل فى تعاونه وتعاضده، أفلا يكون الإنسان أولى بالعمل الدؤوب والحركة المتعاقبة المثمرة.
أضافت: أن الإيجابية حالةٌ فى النفس تجعل صاحبها يؤمن بدوره الفاعل فى المجتمع ويسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتى وألا يكون عالة على غيره، وقد ضرب لنا الرسول مثلا فى البحث عن الإيجابية العملية حينما جاءه رجل يسأله فدعاه إلى أن يأخذ حبلا ويذهب ليجمع الحطب فيبيعه فيأكل من ثمرة جهده خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه، وتلك الفلسفة الإيمانية هى سبب تقدم الأمم وقيام الحضارات، فلم يحفظ التاريخ لنا كحضارة قامت على أكتاف الكسالي.
موضحة أن الإيجابية تجدها عند اهل فلسطين، الذين تحرروا من ملذات الحياة، وراحوا يدافعون عن الأرض والعِرض، وعن المقدسات بكل ما أُوتوا من قوة ومن رباط الخيل، إنهم يُؤثِرون أرضهم وديارهم ومقدساتهم على دمائهم وأبنائهم وأموالهم، إنهم يُرهبون عدوهم رغم بساطة عُدَّتِهم وعددهم وعتادهم، كأنهم يعيدون لنا ذكرى بدر وحطين وعين جالوت.