هنا لكل شيء مذاق ومعنى ولون.. لشهر رمضان والأعياد والمناسبات الدينية أو الشعبية مذاق مختلف فى مصر عن باقى البلاد للدرجة التى أقولها بدون تحيز: من لم يحضر شهر رمضان أو عيدى الفطر والأضحى أو الأعياد الشعبية مثل شم النسيم فى مصر وحاراتها فقد خسر الكثير ولا أبالغ إذا قلت لن يشعر بهم فى أى مكان.
> لشهر رمضان مكانة بارزة فى عادات وتقاليد المصريين وان خفتت الآن فى التجمعات الجديدة، لكن على مر العصور، الصبغة المصرية والمظاهر والمعان المتعددة جعلته مختلفاً عن سائر بلدان الشرق، هنا كل شيء موجود.. الليالى الاحتفالية العامرة بشتى صنوف اللهو والبذخ حتى مع الأزمات والضوائق على مر العصور، من استقدام مقرئ للقرآن أو منشد دينى فى دوار العمدة أو الأثرياء فى الماضى إلى السرادقات ومسلسلات رمضان الآن.
> من العزمومات التى يتجمع فيها الأهل والأصدقاء إلى موائد الرحمن للغرباء والفقراء.. إلى امتلاء المساجد بالمتقربين إلى الله فى صلاة التراويح والفجر ودروس الفقه والعبادات.. وحين دخل الراديو والتليفزيون كانت أحاديث الشيخ متولى الشعراوى وتواشيح الشيخ طوبار والنقشبندى والفوازير والمسلسلات وألف ليلة وليلة فى شهر رمضان صاحب الـ30 ليلة.
> أعتقد ان السبب لا يرجع إلى الدين أو المناسبات فى حد ذاتها والتى يخلقون بعضها أو يصبغونها بلونهم لكن إلى طبيعة المصريين أنفسهم وشخصيتهم النابعة من تراث حضارى لا ينضب أثره مهما مرت السنون.
> أنا شخصياً حضرت بعض أيام من شهر رمضان وعيد الأضحى فى بلاد إسلامية ولم أشعر بأى بهجة أو سعادة ولم أشاهد أى مظاهر للبهجة مثل التى اراها هنا.
> يعنى رمضان هو مصر التى تستقبله بحب وتودعه بحزن.. والعيد يعنى مصر والنكتة هى مصر ودفء اللمة فى مصر… باختصار مصر كل شيء.
رمضان بعيون الأجانب
هذه البهجة رصدها منذ زمن طويل رحالة عرب ومسلمون ومستشرقون أجانب.. رصدوا بعض مظاهر هذه البهجة من الاحتفال بليلة رؤية الهلال ومواكبها التى تكاد تندثر أو تطورت إلى أشكال أخرى ومروراً بفوانيس رمضان والمسحراتى ومدفع الإفطار والكنافة والقطايف وصناعة الكعك والبسكويت وصلاة التراويح وصلاة العيد والبمب والصواريخ فى يد الأطفال والفسيخ والبيض الملون فى شم النسيم.
> للمصريين قدرة غريبة فى التغلب على أحزانهم أو أزماتهم أو الاحتفال بمناسباتهم بالضحكة والنكتة والأكل وابتكار أى مظهر من مظاهر البهجة المخلوقة محلياً وللدرجة التى جعلت الكثير من البلاد تسير على بعض الدرب أو تقلد بعضه أو تحوله إلى منتج حتى ولو بغرض اقتصادى مثل صناعة الفوانيس الصينية التى غزت الأسواق وان ظل الفانوس المصرى الصفيح والزجاج الملون أبوشمعة أو حتى بلمبة كهرباء هو مصدر «البهجة».
> نعم فى كل زمن مر به المصريون كانت هناك عقبات للبهجة ولكن استطاعوا أن يتغلبوا عليها إما بالنكتة أو القفشة أو المثل الشعبى أو باختراع البدائل.. مثلاً صنعوا الفوانيس مؤخراً من القماش الملون حين ارتفع سعر الصفيح وتم منع الاستيراد، وتحول المسحراتى الفرد من ايقاظ الحارة إلى المسحراتى الفنان فى الإذاعة والتليفزيون الذى يوقظ الوطن.
واسترجاع عادات المصريين فى شهر رمضان بعيون الرحالة الأجانب قد يكون لذيذا فى ظل الحاضر الذى تحوله أحداث غزة وشلالات الدم الفلسطينى إلى أكبر عقبات البهجة علينا جميعاً.
رمضان بعيون الأجانب
من أقدم الرحالة الذين زاروا مصر ورصدوا مظاهر شهر رمضان فيها الأب فليكس فابرى الذى قدم إلى مصر فى عام 1483 ورصد بعينه وقلمه شوارع وحارات مصر التى تحمل فى جنباتها الفوانيس بمختلف أشكالها وألوانها، ويحملها الكبار والصغار».
يصف المسحراتى قائلاً: «يمر ليلا فى الشوارع ثلاث مرات يدق على طبلة وينادى على الناس كل واحد باسمه».
رؤية الهلال
أما المستشرق الإنجليزى إدوارد وليام لين، الذى زار مصر 1833، يصف استطلاع هلال شهر رمضان بقوله: «بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية القمر «الهلال» إلى محكمة القاضي، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقاً عديدة، ويعود فريق منهم إلى القلعة بينما تطوف الفرق الأخرى فى أحياء مختلفة فى المدينة ويهتفون «يا أتباع أفضل خلق الله صوموا، صوموا».
يضيف: «إذا لم يروا القمر فى تلك الليلة، يصيح المنادى «غدا شعبان، لا صيام، لا صيام»، ويمضى المصريون وقتاً كبيراً فى تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون، وترتسم البهجة على وجوههم كما لو كانوا تحرروا من شقاء يوم صيام، وتتلألأ الجوامع بالأنوار، كما فى الليالى المتعاقبة، وتعلق المصابيح عند مداخل المآذن وأعلاها».
> كان علماء الحملة الفرنسية فى مصر «1798-1801» قد سبقوا وليام لين فى تقديم صورة حية لحياة المصريين، من بينهم العالم آدم– فرانسوا جومار بقوله:» يبدأ شهر رمضان مع ميلاد هلال هذا الشهر، ويعلن عن ذلك موكب احتفالى يسبق بداية الشهر بيومين، ويتكون هذا الموكب من حشد من الرجال يحمل بعضهم مشاعل، وبعضهم يحمل عصيا، ويقومون بأداء حركات مختلفة بها. ويفتتح سير الموكب عازفين يمتطون ظهور الجمال ويضربون على طبل معدنية، بينما يمتطى عازفون آخرون ظهور الحمير ويضربون كذلك على طبل أو يعزفون على بعض آلات النفخ الأكثر صخبا».
مدفع الإفطار
ارتبط المصريون بفكرة «مدفع الإفطار» وترسخت فى عاداتهم وحافظوا عليها لفترة طويلة وأصبح دوى هذا المدفع مع غروب الشمس «الإشارة» التى يجتمع عليها الجميع إيذانا لبدء الإفطار بعد صيام يوم طويل، كما أصبح من السمات المميزة للمظاهر الاحتفالية فى مصر طوال شهر رمضان وحده.
تضاربت الآراء التاريخية من حيث نشأة تلك العادة وأجمعت الروايات، رغم اختلافها، على كونها وليدة الصدفة، وسواء كانت ترجع إلي» خوش قدم «المملوكى 1465 ميلاديا أو محمد على باشا أو الخديو إسماعيل أو عباس باشا الأول فإن مدفع الإفطار عاده مصرية تجلب السعادة لينطلق بعده ويجلجل المؤذن بأذانه الجميل داعيا الناس للصلاة.