مما لا شك فيه أن النساء الأوليات حملن مشاعل النور وسط الظلام وناضلن لأجل فتح أبواب مغلقة لم يكن مسموحًا لبنات منهن أن يطرقنها.. وخضن معارك ضد الجهل والظلم ليمهدن لبنات حواء طرق العلم والعمل والنجاح والإبداع في وقت أن كان تعليم البنات أمرا خارجا عن المألوف ومخالفا للعادات والتقاليد ومتعارضا مع النظرة السائدة للمرأة ودورها في الحياة الذي كان قاصرًا علي الزواج وخدمة الرجل، وتربية الأبناء ورعاية شئون المنزل غير أنهن شققن طرق العلم. واقتحمن مجالات العمل المختلفة ورسمن مسارات جديدة لأجيال قادمة.
واليوم نستعرض «نساء في تاريخ مصر» مسيرة كفاح الإعلامية ليلي رستم أيقونة الجمال وجريئة الستينيات.
فليلي رستم رغم أن بداياتها كانت في ظل وجود عمالقة في المجالات المختلفة كالإعلام والفن والثقافة إلا أن حضورها ولباقتها وثقتها بنفسها جعلت منها عملاقة رغم صغر سنها مما أهل لبروزها كإعلامية مرموقة علي شاشة التليفزيون.
ولدت ليلي رستم في القاهرة في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي. ثم انتقلت للعيش بالإسكندرية بسبب ظروف عمل والدها المهندس عبدالحميد رستم الشقيق الأصغر للفنان زكي رستم إلا أن الإقامة في الإسكندرية لم تدم كثيرًا لتكون المنصورة هي المحطة التالية في حياتها فالتحقت فيها بمدرسة للراهبات التي أفادتها كثيرا في العلم والثقافة والخلق والتربية واللغات والفكر وهو ما ساهم في تكوينها كإعلامية ومقدمة برامج مميزة في التليفزيون المصري.. وإلي التفاصيل:
تعتبر ليلي رستم واحدة من أهم المذيعات في تاريخ اللقاءات التليفزيونية مع نجوم العصر الذهبي، وقد ولدت في العام 1937 وحصلت علي ماجستير في الصحافة من جامعة نورث وسترن الأمريكية ثم بدأت عملها في التليفزيون المصري عام 1960 كمذيعة ربط ثم قارئة للنشرة الفرنسية لبلاغتها الشديدة.
وقدمت ليلي رستم العديد من البرامج السياسية والاجتماعية والفنية، منها «نافذة علي العالم».
كما قدمت برنامج «الغرفة المضيئة» وكان يعده مفيد فوزي، ثم انتقلت لتقديم برنامج «نجمك المفضل» واستضافت به عددا كبيرا من الفنانين.
لمن لا يعرف ليلي رستم من الجيل الجديد عليه أن يتابع حلقات برنامجها «نجمك المفضل» علي قناة «ماسبيرو زمان»، التي تُعرض الآن، فسيري حالة من منتهي الرقة، والذوق، والتألق، والوقار في إدارة الحوار مع كبار الممثلين، والأدباء، والشعراء أمثال محمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وفاتن حمامة، وطه حسين، ويوسف السباعي، وإحسان عبدالقدوس، وعمر الشريف، وأحمد رمزي، ونجمي الصحافة علي ومصطفي أمين، والملاكم محمد علي كلاي. لقد رحلت ليلي وبقي «نجمك المفضل» ركنا من أركان التراث الإعلامي الراقي، وستبقي سيرتها رمزية لإعلام آخر في زمن آخر «الزمن الجميل»، وقد حظيت رحمها الله علي الشهرة، والاحترام، والأناقة، والذوق، وجمعت كل ذلك في شخصيتها الفريدة، ولم تحصل مذيعة علي الألقاب الكثيرة المتنوعة في الإعلام مثلما حصلت ليلي، وهي صفات تسبق اسمها مثل «الأيقونة علي الدوام»، و»صائدة المشاهير»، و»محاورة النجوم»، و»أيقونة مصرية». إنني أتذكر حوارها مع أنديرا غاندي، والتي كانت ندا لها، واكتشفنا فيها العمق السياسي بكلمات بسيطة، لكنها جعلت رئيسة وزراء الهند تتكلم، وتبوح بأسرارها، من دون كلمات كثيرة، حيث تكتسب ليلي عمقها الفكري، والثقافي بكلمات بسيطة في سؤالها، فعندما تحاور عبدالحليم حافظ، أو فاتن حمامة فهي المذيعة المتقنة، خفيفة الروح والظل، والتي ظلت سيدة ماسبيرو، وتركت مكتبة تليفزيونية ثرية لنجوم مصر قلما نجدها في أي مكان آخر، وليتنا نحافظ عليها للأجيال القادمة، ولا ننسي أن زميلتنا كانت صحفية كذلك في «الهيرالدتريبيون»، بل «مراسلة حربية» متقنة تذهب لمناطق الأزمات والحروب، وتنقل باللغات العربية، والإنجليزية، والفرنسية، تكتب وتقرأ بها، وهي رمز لنموذج متكامل للإعلامي الذي يملك مهارات العصر. وأخيرا، فإن ليلي رستم «11 فبراير 1937 – 9 يناير 2025» نموذج للصحفية، والتليفزيونية المتكاملة معا، وصاحبة الأداء الرفيع والراقي، ولم تضبط يوما علي الشاشة نابية، أو غير متقنة، أو حتي هفوة تقلل منها، ومن شاشتها، رحمها الله، وكل جيلها من العظماء.
ليلي رستم مذيعة من زمن الكبار
وهكذا وصفها إحسان عبدالقدوس وخليل البنداري وسناء البيسي، وقالوا إن ليلي رستم، مذيعة جميلة من الرعيل الأول لمذيعات التليفزيون المصري، مذيعة ذكية رقيقة تجيد الحوار، متألقة الذهن، حاضرة البديهة، عرفت بأشهر باروكة وصاحبة ملامح جميلة، تملك درجة كبيرة من الثقة والثقافة في أدائها، قدمت أنجح البرامج التليفزيونية علي الهواء استضافت فيها مشاهير الأدب والصحافة والفن، رغم قصر مشوارها كانت من ألمع المذيعات وأشهرهن.
قال عنها الكاتب والأديب إحسان عبد القدوس: بإمكانك أن ترتاح لرؤية ليلي رستم أو تكرهها لكنك لا يمكن أبدا أن تمتنع عن مشاهدة برامجها، وكتب عنها جليل البنداري في أحد مقالاته يقول: جمالها لاذع كعسل النحل، ولسانها لاذع كقرصة النحلة، وقالت عنها الكاتبة سناء البيسي: لكي أقابلها يجب أن ارتدي كل ذكائي، واستحضر كافة بديهتي، وأتنمر للدفاع عن نفسي، وأضع علي جسمي أشيك فستان عندي، وأستند علي لغتي الأجنبية، ولا أحاول أن أقول نكتة في غير موضعها.
الأولي بلا منازع
ومنذ طفولتها اعتادت ليلي رستم، أن تكون الأولي بلا منازع، وأن تكون لها القيادة والسيطرة علي مقاليد الأمور بين أقرانها، فهي الزعيمة حتي لو استدعي الأمر الدخول في معارك، كانت بدايتها مع الإذاعة مذيعة ربط بالبرنامج الأوروبي وبعد عام انتقلت ليلي رستم عام 1960 إلي التليفزيون عند افتتاحه لتصبح من الجيل الأول من المذيعات بالتليفزيون المصري مع سلوي حجازي وأماني ناشد وتماضر توفيق، واستمرت سبع سنوات قارئة للنشرة الفرنسية.
صحفية روضة جامعة
وتحكي ليلي رستم عن بداياتها وتقول:عندما التحقت بالدراسة بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية، انتقدت في اليوم الأول مجلة الجامعة التي كان بها الكثير من العيوب، فصارت معركة بيني وبين القائمين عليها، الذين أطلقوا علي لقب «صحفية روضة جامعة»، فلم أهتم وواصلت التعبير عن رأيي، حتي صرت رئيس تحرير تلك المجلة، بعدها سافرت لمدة عام في بعثة إلي جامعة نورث وسترن بالولايات المتحدة، وقد حصلت علي الماجستير.
استطاعت ليلي رستم تقديم مجموعة برامج تليفزيونية متنوعة تزخر بها مكتبة التليفزيون تدل علي اجتهادها وتفوقها علي مذيعات جيلها، فقدمت ثلاثة برامج دفعة واحدة في البداية هي: الغرفة المضيئة ، نجمك المفضل، عشرين سؤال، وقد كان أحد أهم برامج التليفزيون المصري، وكان يعتمد علي اختيار موضوع يتم سؤال الجمهور في معلومات حوله، مع وجود عدد من المحكمين، يمنحون الجمهور الدرجات، حول مدي صحة المعلومات التي يجيبون عنها، وفي نفس الوقت كانت تقدم أربع نشرات أسبوعيا باللغة الفرنسية، وتقدم حلقتين أسبوعيا من برنامج نافذة علي العالم.
نجمك المفضل أشهر البرامج الحوارية
من برامج ليلي رستم « نجمك المفضل « الذي كان يعده الكاتب الصحفي مفيد فوزي وهو برنامج حواري استضافت فيه أكثر من 150 شخصية من مشاهير الأدباء والكُتاب والصحفيين والفنانين.
من أشهر حلقات برنامج نجمك المفضل التي أثارت جدلا وكان لها رد فعل عند الجمهور والنقاد كانت مع الفنان أحمد رمزي الذي كان دونجوان السينما في ذلك الوقت عام 1965، وجهت إليه ليلي رستم في الحلقة سؤالا عن سر فتح أزرار قميصه دائما، خاصة بعد اصبحت موضة اقتدي بها الشباب في الشارع المصري، رد رمزي لأنه يرتدي سلسلة بها خرزة زرقاء أهدتها له زوجته عطية الدرماللي لأنها تخاف عليه بشدة من الحسد، ردت ليلي رستم وقالت « ياختي عليه».
وقيل يومها أن زوجها قام بتطليقها بسبب هذه الكلمة بسبب غيرته، إلا أن ابنتها إيمان نفت ذلك في أحد حواراتها لأن الطلاق تم بعد هذه الواقعة بخمس سنوات.
تعشق العقاد كعبقري ومفكر
وتتذكر ليلي رستم بعض من حاورتهم فتقول: أبهرني طه حسين الذي أعتقد أنه لم يقل الكثير مما كان يفكر فيه، فما قاله أقل بكثير مما كان يدور في داخله. وأحترم الأديب عباس العقاد كعبقري، وأعشقه كمفكر، ولكنني لا أتقبل نظرته للمرأة، أما نجيب محفوظ فاري انه نجح في فهم طبيعة الشخصية المصرية وتحليلها نفسيا بأسلوب عالمي.
بعد النكسة عام 1967 هاجرت ليلي رستم الي بيروت مع زوجها رجل الأعمال حاتم الكردي بسبب عمله هناك وتركت العمل بالتليفزيون المصري، حيث قدمت خلال فترة تواجدها ببيروت العديد من البرامج التي أكدت نجوميتها وشهرتها منها برامج: سهرة مع الماضي، محاكمات أدبية، بين الحقيقة والخيال.
مراسلة الحوادث اللبنانية
إلي جانب البرامج اتجهت ليلي رستم إلي الكتابة الصحفية، وكانت تكتب في صحيفة الهيرالد تريبيون واستمرت في كتابتها أكثر من عشرين عاما، كما كانت تعمل مراسلة لمجلة الحوادث اللبنانية في تغطية أحداث الحرب الأهلية اللبنانية لتعود بعدها إلي مصر مذيعة بالتليفزيون المصري حيث قدمت برنامج « قمم « الشبيه ببرنامج نجمك المفضل استضافت فيه رموز المجتمع المصري ونجومه من بينهم نجيب محفوظ والدكتور مصطفي محمود ويوسف وهبي، وبسبب تدخل رقابة التليفزيون في الحوارات بالحذف قررت ليلي رستم اعتزال العمل الإعلامي نهائيا، مبررة اعتزالها بقولها « لم يعد التليفزيون كما كان».
وعند إعلان ليلي رستم قرار اعتزال العمل الإعلامي أول مرة عام 1967 كتب الصحفي مفيد فوزي مقالا في مجلة صباح الخير يقول فيه: ستختفي من الصحف والمجلات أخبار السيدة النحيلة الجميلة الأنيقة صاحبة أشهر باروكة، ستختفي من أحاديث البيوت وسهراتها ليلي عبد الحميد رستم، إن لغز ليلي رستم الحقيقي هو ثقتها بنفسها، هذه السيدة الشجاعة التي اسيء فهمها من النقاد وقالوا إنها خوجاية في الجهاز الإعلامي، لها نظرة خاصة في ضيوف برنامجها، إنها تساعد الضعيف، وتظهر قوتها علي المدعي الذي يحاول فرد عضلاته، وتحترم بشدة من تشعر في أعماقها أنها تحترمه، إني أعتبر كلمات ليلي المأثورة وبعض حركاتها وثلث قفشاتها من المشهيات التي يجب أن تتوافر في البرنامج التليفزيوني، أو الفلفل علي حد تعبير الرسام جورج البهجوري.
شىء يستحق الفرجة
لقد استطاعت ليلي رستم بذكاء أن تكون في البرامج التي تقدمها شيئا يستحق الفرجة، قال لها عبد الوهاب يوما أثناء دعوته إلي أحد البرامج التي كنت أعدها وتقدمها ليلي «أنا أحب القفش والتنكيت بس بشياكة ورقة وجمال ».
أنوثة وثقة بالنفس
ومع النجاح والتميز والشهرة اتهمت ليلي رستم بالغرور والتعالي علي الجمهور وعلي جمهور برنامجها وكتبت الصحف الفنية تنتقدها، وكانت دائمة الرد علي الاتهام بالنفي مؤكدة أن ما لديها ثقة بالنفس، ورغبة في منع الآخرين من التدخل في شئونها، إلا أن بعض المقربين منها أكدوا أنه كان لدي ليلي إحساس زائد بالتميز، كان ذلك وراء الاتهام بالغرور، تؤكده رغبتها الملحة في الاستقلال بذاتها ن فهي تقول عن نفسها: أهم ما يميزني فرديتي، لا أسمح لأحد بالتفكير لي، أو التدخل في آرائي، أو حكمي علي الأمور، ولذا يزداد إعجابي بالمرأة التي تتغلب علي أنوثتها وتعتمد علي ذكائها وإمكانياتها المعنوية.
أزواج ليلي رستم
تزوجت ليلي رستم من رجل الأعمال اللبناني حاتم الكرداني، وأنجبت منه 3 بنات وهن «عائشة» و«لمياء» و«إيمان» ومن بعدها تركت العمل في التليفزيون المصري بسبب قرار التأميم، وسافرت مع زوجها إلي لبنان وقدمت خلال فترة تواجدها في بيروت العديد من البرامج التليفزيونية الناجحة.
قال عنها الإعلامي خالد منتصر إن ليلي رستم ظهرت مع الجيل الذهبي منهم صلاح زكي وتماضر توفيق وأماني ناشد وكوثر هيكل وهمت مصطفي وسميرة الكيلاني.. إلخ. جيل كان يصعد السقالات اثناء بناء مبني ماسبيرو وكأنهم في مهمة اقتحام عسكرية، كانوا بالفعل يقتحمون ويفتحون أبواب الحداثة من خلال هذا السحر المسمي التليفزيون.
وأضاف ظهرت ليلي رستم وسط هذا الزخم، لكن كان لها طعم خاص ومميز ببرنامجها «نجمك المفضل» براند خاص بليلي رستم فقط لدرجة أن الضيوف كانوا يخشونها من فرط حضورها الطاغي وكاريزمتها وثقافتها الموسوعية، فهي خريجة الجامعة الأمريكية التي تتفن الإنجليزية والفرنسية وفي نفس الوقت لغتها العربية رصينة ورشيقة، بالإضافة لتلك الثقافة هناك جمال ملامحها المصرية المنحوتة بنمنمة فرعونية نفرتيتية خالصة، الكل مازال يتذكر تسريحة شعرها الأنيقة، وملابسها التي تجمع ما بين البساطة والشياكة.
وقال د.حسن منير إن اسم المذيعة القديرة ليلي رستم ارتبط بحوارات شهيرة أجريت مع عمالقة الأدب والفكر والفن في مصر، وربما في غيرها من البلدان العربية، كونها عملت أيضا مذيعة في التليفزيون اللبناني، ومنها اللقاء الذي جمع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مع نخبة من نجوم الأدب والفكر في مصر: يوسف السباعي، وثروت اباظة، وأمين يوسف غراب، وعبدالرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ، وأنيس منصور، وكامل زهيري، وعبدالرحمن صدقي، وعبدالرحمن بدوي، ومحمود أمين العالم الذي استثناه العميد من المأخذ الذي أخذه علي أدباء الجيل التالي له بأنهم لايقرؤون كما يكتبون، كذلك حوارها مع الموسيقار محمد عبدالوهاب حيث مع الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي تنأولت فيه محطات حياته الفنية.