العروض السينمائية «أونلاين» تخاطب جمهورا واسعا من المهتمين الذين يجمعهم الشغف بالسينما على بعد المسافة أو اختلاف التخصص وأثبتت هذه العروض فعاليتها وأهميتها أثناء الجائحة واستمرت بعدها لتؤكد أن عشق السينما لا يحتاج إلى قاعة وشاشة وجدران بل يكفيه رابط للمشاهدة وآخر للقاء وحوار لا ينتهى يجعل المشاهد يرى الفيلم من جديد فيكتشف ما فاته ويفكر فيما ينتظره فى السينما وأيضا الحياة.
ومن أهم منارات السينما على أرض الواقع و»أون لاين» شبكة للباحثين فى الأدب والسينما، أسستها د. سلمى مبارك أستاذ الأدب المقارن والفنون بقسم اللغة الفرنسية وآدابها بآداب القاهرة فى 2016، بهدف جمع الباحثين المعنيين بدراسة الأشكال المختلفة للعلاقة بين الأدب والسينما وتقدم نشاطا سينمائيا متميزا داخل الجامعة وخارجها من ورش وعروض وأبحاث.
وخلال أكتوبر المنقضى حيث أيام الحرب والمقاومة، انهزامات التاريخ وانتصاراته، جاءت عروض شبكة «آمون » للباحثين فى سينما الأدب متنوعة تجمع بين العربية «بيروت الغربية إخراج زياد دويري/1998» والعالمية «روما مدينة مفتوحة إخراج روبرتو روسيليني/1945» والمصرية «لا وقت للحب إخراج صلاح أبوسيف /1963» وناقشها خبراء من تخصصات مختلفة فى الأدب والنقد والفكر والسينما هم بالترتيب:
الكاتبة والمترجمة منى أنيس – الناقدة والمونتيرة صفاء الليثى –أستاذ الأدب العربى الحديث د.خيرى دومة.
هنا بيروت
يبدو الأمر وكأنه رحلة سينمائية خططت لها آمون طوال عروضها ويخوضها المشاهد، تبدأ من لبنان حيث نتابع جميعا الأحداث الملتهبة ويعيدنا «بيروت الغربية» إلى أجواء الحرب الأهلية مع المراهق «طارق» وصديقه «عمر» يتشاركان حب السينما وتصوير الأفلام خلسة وعندما تبدأ الحرب وتنقسم بيروت إلى غربية وشرقية: جانبان متحاربان، ومراهق لا يعنيه سوى الوصول إلى الجانب الآخر لتحميض فيلمه دون إدراك لطبيعة الصراع السياسى أو الطائفى الذى نشاهده بعيونه ونتساءل معه سؤال الهوية الذى يتعدى مرحلته السنية بما فيها من تمرد على الدراسة أو الأسرة إلى وطنه.. ديانته.. محيطه.. وقرار البقاء أوالرحيل..
يساعدنا الفيلم على رؤية أفضل للمجتمع اللبنانى المتنوع ورغم الجدل حول سجل مخرجه زياد دويرى وموقفه من الصراع العربى – الإسرائيلى لكن يبقى « بيروت الغربية» – باعتباره عمله الأول – يعبر عن بكارة التجربة لاسيما أن بطله يشبهه فى الظروف والشغف فتتقاطع الأسئلة هو ما هو ذاتى وموضوعي– ما هو واقعى وسينمائى وتتعدد رسائل الفيلم التى تحتمل تفسيرات متعددة أهمها حب لبنان للحياة والانتصار لها رغم الحروب.
روما.. مدينة مفتوحة
ومن لبنان – نذهب إلى روما تحت الحكم النازى فى واحد من الأفلام التى أرست دعائم الواقعية الإيطالية بأبطال من وسط الناس وتمثيل خال من المبالغات و تصوير فى قلب الأماكن الواقعية وكأننا أمام سينما تسعى بصدق ألا تكذب أو تتجمل دون أن تستدر أنهار الدموع أو تطلق الضحكات العالية.
فى الفيلم تبحث سلطات الاحتلال النازى عن زعيم للمقاومة الشعبية يختبيء ويتحرك بين الناس.. بين من يأويه ويدافع عنه ومن يسلمه ويستلم ثمنه..يلتقى هذا الزعيم ذى الميول الاشتراكية بقس كاثوليكى يساعده فى رحلة الاختباء والمقاومة رغم اختلاف –وربما تناقض –الخلفية الدينية– وبعد القبض على الجميع تبدأ رحلة التعذيب من أجل الاعتراف وصولا إلى النهاية المحتومة.
وهنا يدهشنا الفيلم الذى يحمل مواقف شديدة الدرامية لكنه يعبر عنها دون اجترار المشاعر ومع ذلك يصل إلى تأثيره الخاص ربما من تمكن مخرجه وقدرته على تحويل البناء التقليدى للمشاهد إلى نسيج شديد الخصوصية وفى نفس الوقت له عمومية الموضوع الإنسانى فى أى زمان تسوء فيه الأحوال ومكان يسود فيه الاحتلال بقوته الغاشمة.
الحب والمقاومة
ونعود إلى السينما المصرية فى واحد من أعمالها الكلاسيكية «لا وقت للحب» لمخرج الواقعية صلاح أبو سيف والمأخوذ عن «قصة حب» لأسطى القصة القصيرة يوسف إدريس.
يتفق العملان فى الجمع بين الحب والمقاومة أو الحب فى زمن المقاومة، تزيد أو تقل الجرعة الرومانسية بين العملين، كما نتفق أو نختلف حول مدى الخطابية التى قد تكتنف الموضوع، لكن يجمعهما هذا الإيمان بأن الحب الحقيقى هو الانتماء للناس والانحياز لقضاياهم والدفاع عن الوطن ضد الاحتلال «تدور الأحداث قبيل حريق القاهرة يناير 1952».
فى قصة يوسف إدريس تقابلنا السخرية اللاذعة الممزوجة بالواقعية فى الوصف النابض لمصر وناسها وشوارعها ومهنها الهامشية ولعل هذا ما لفت نظر صلاح أبوسيف ليصبح أول أعمال يوسف إدريس على الشاشة حافظ على الحوار وعهد بالسيناريو للوسيان لامبير.
أضاف لكنه حافظ على بناء منطقى للأحداث نشاهد فيه الفدائى حمزة «رشدى أباظة» عندما جمعته الصدفة بالمدرسة فوزية «فاتن حمامة» والتى حول الحب حماسها الوطنى إلى عطاء ومخاطرة من أجل مساعدته وإيمانا بالقضية.
كعادة صلاح أبو سيف يبهرنا بمزجه بين الواقعية والتراث الشعبى الذى يتجلى فى مشهد النهاية الأيقونى عندما يداهم الإنجليز مقر الفدائيين ويخشى الجميع عودة حمزة والقبض عليه، وهنا يكون المنقذ والمحذر مجموعة من الأطفال يلعبون ويرددون»وابور يا مولع» مع التصرف فى الكلمات لكى تحمل اشارات تحذيرية واضحة: «اوعى تقرب.. اوعى تفوت.. وارجع تانى لأحسن حتموت..خدها نصيحة من الكتكوت!»
وفى الختام: «يا وابور يا مولع حط النار.. فيه بيننا وبينهم دم و تار» وبهذه الكلمات التى تحمل صيحة وطنية بريئة، يثبت صلاح جاهين وجوده فى الفيلم كشاعر بعد أن ظهر فى دور»بدير» خفيف الظل جميل التأثير.
يراهن أبو سيف على الأطفال: على وطنيتهم ووعيهم الذى يسبق سنهم بل يشرحونه لأهاليهم وهم يرددون معهم الأغنية.
لنتذكر فيلم روسيلينى فى «روما مدينة مفتوحة» عندما أشار إلى دور الأطفال فى المقاومة وتستعيد الذاكرة تلك الأجواء المحمومة بين الدمار والحياة، الحب والأمل فى «بيروت الغربية».
وكأن الأفلام الثلاثة تنطلق من هم واحد «الحياة أثناء الحرب» إلى هدف واحد «المقاومة حتى الانتصار» وإن اختلف اسلوب التعبير.