كثر هم من حولنا ممن يحملون رايات العلوم المعلقة فى «براويز» فخمة على حوائط العيادات والمستشفيات فأصبحت عدد لافتات الأطباء من كثرتها تكاد أن تكون فى ازدحامها وكأنها ازدحام سيارات المرور فى الشوارع . فهناك السيارة الـ BMW والسيارة Mercedes والـ Toyota والـ FIAT وهناك الـ manual والـ Automatic ولكل سعر !!! كما أن هناك ايضا من يسير وفقا للقوانين وهناك من يخالف وهناك من يصطدم بسيارات الآخرين وهناك من يتراشق وهناك من يحترم القانون .. تمام .. هذا يدل بالتأكيد أن مصر ستظل قبلة للعلم فى الشرق الأوسط وأن شعبها يحترم كثيرا تعليم أولاده ويضعه الأولوية الاولى فى الاسرة وربما تكون الاسرة فقيرة ، وتبدى تعليم الاولاد ودروسهم ومدارسهم على حياة الاسرة نفسها !! وعندما تسأل اى انسان فى الشعب المصرى ،، تحب أما ابنك يكبر يطلع ايه؟ هقولك :- « نفسى أشوفه دكتور « . ولكن … قليلون هم من ينجحون فى تحقيق هذه المعادلة الصعبة، من يهتمون بأنه قبل أن يصل ابنى إلى أعلى مراكز العلوم، ان يكون مسلحا أثناء مشوار تربيته بالانسانية والمروءة .. ومن وجهة نظرى البسيطة .. ان البناء الانسانى للطفل اصعب بكثير من البناء العلمى له .. فمع تقدم وسائل العلم المختلفة، أصبح تعلم العلم أكثر سهولة عن الماضى اى ليس من الصعب أن يصل الانسان الى مصاف العلماء بمختلف تخصصاتهم كالطب مثلا « لأنها مهنتى التى أتحدث عنها الآن « .. ولكن الأصعب بكثير .. أن يبقى هذا العالم سواء أكان طبيبا او مهندسا أو غيره أن يكون انسانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى . فعندما أقول عالما، فجميعنا يمكن أن يتوقع أنه شخص درس واشتغل على نفسه بثبات وصبر ودأب وكد واجتهاد ومثابرة واصرار ، وطرق جميع الابواب والوسائل بكفاح، فأصبح عالما فى هذا المجال وهذه النقطة التى بحث فيها وسافر وتعلم من شعوب أخرى متميزة فيه .. ولكن الأصعب أن أقول ان هذا الانسان انسان والاصعب والاصعب أن يصل الى مرتبة العلماء ولم ينس فى زحام الطريق « انسانيته» ولم يركنها فتعلوها الاتربة فوق أرفف الحياة الصاخبة ممن حوله .. فالإنسانية ليست كلمة هينة واعتقد أنها أصعب بكثير من العلم .. فـ « إنسان « يعنى فيك من الطبائع الأصيلة التى تم نقشها فى وجدانك وفى خلايا مخك وأعصابك وفى ضميرك الحى النابض منذ طفولتك هى بذور ذرعها الوالدان فى أرضك وكما ذرع وتعهد وروى حصد بذور التواضع والعطاء والرضا والضمير الحى والتسامح النفسى والمعنوى واحترام الآخر .. وحقيقة .. ان الانسانية بكل معانيها لا يمكن أن يحصيها قلم ولا صفحات ولا كتب ،، فتعليمها فى الصغر كالنقش على الحجر .. لكن للأسف .. الاسرة فى ظل ازدحام الحياة ومتطلباتها الكثيرة وكدح الوالدين من أجل توفير لقمة العيش والتعليم، يسقط منها فى هذا الطريق المزدحم -سهوا لا عمدا- أعمدة كثيرة وتفاجأ أنها – أينعم- أخرجت علماء ولكنهم « robot» رءوسهم ممتلئة بالعلم والنظريات ولكن وجدانهم وضمائرهم خواء، هواء من أبسط المعانى الإنسانية .. هناك من سيعترض على مفهوم العالم الانسان ، ويقول لك ليس من المطلوب من الطبيب مثلا أن يوزع انسانيته على المرضى ولكن لابد وأن يقدم علما ونتيجة .. لكنى أقول له مع الأسف الشديد، وجهة نظر قاتلة وصادمة . لأن الطبيب فى معنى الكلمة هو من يطبب الآلام والجراح وكانوا فى الماضى يسمونه «حكيما» أى من الحكمة قبل العلم . فالحكيم هو من يتناول القضية برشد ونضج واحتواء وحكمة ويصل إلى الحل الذى يريح من طلب منه المعونة . ولا يمكن لأن يكون الطبيب غير ذلك وخاصة وهو يتعامل مع انسان آخر مريض وهو فى حالة ضعف واحتياج فيجب أن يشعر بمن أمامه شعورا واحساسا حقيقيا وليس ظاهريا او عقليا .. ويجب أن يعلم جيدا، أن تلك الأيام نداولها بين الناس ، فأنت كطبيب اليوم فى موقف قوة ، والمريض فى موقف ضعف ، وغدا يمكن أن تنقلب الآية .. كثيرون هم العلماء الذين أصبحوا كغثاء السيل أو زبد البحر ، ولكن أما الزبد فيذهب جفاء .. كل ستنتهى سيرته بعد وفاته ولكن سيبقى الأثر لمن ترك بصماته الانسانية قبل العلمية على قلوب أصحاب الأسرة البيضاء ولن تتذكر الحياة الا الشرفاء .. أفرح كثيرا عندما أقابل عالما فى فرع من فروع الطب المختلفة ،، لكن لا أفخر الا عندما أقابل عالما انسانا .. انه الشخص الذى يجبرك على تذكر عبارة :- « ادعو لمن يراك يدعو لمن رباك» . ومن هذه النماذج المنيرة :- أد أحمد الصواف أستاذ أمراض النساء والولادة بطب قصر العينى واستشارى الحقن المجهرى وأطفال الأنابيب ابن الاستاذ الدكتور الصواف .. الاستاذ بكلية الصيدلة -رحمه الله- العالم الذى طافت نسائم علمه أريج العطر الانسانى بين شعوب الوطن العربي، ليست مصر فقط، بل بين شعوب بعض أخواننا فى الوطن العربى وهو أيضا أحد رموز الحقن المجهرى فى وطننا مصر .. التخصص الرفيع الذى «بمشيئة الله» يحيى الأمل فى قلوب المشتاقين لنعمة الله من البنون والذى لا يتفوق فيه الا عالم كبير .. استاذا ومعلما ويذكر بالاسم . رأيته وهو يتعامل مع أصحب الحالات مهما بلغت من العمر أو الصعوبة، بمنتهى الأمل والتفاؤل بالله عز وجل . وحتى من لم يكتب الله له الرزق، لم يجعله ييأس، بل ظل يتمسك بالله حتى النهاية .. رأيته وهو ينقذ الكثيرين من ضحايا النصب والغش والتجارة الطبية .. رأيته وهو يضع زكاة ماله فى التخفيف عن كاهل المرضى البسطاء .. رأيت الكثير والكثير دون أدنى مبالغه .. رأيت أستاذا ومعلما… وقد تحدث أستاذنا د.احمد الصواف فى آخر مؤتمر طبى عقد له وأثار الجدل فى موضوع من أكثر المواضيع الشائكة خاصة فيما يتوافق مع الثقافة العربية .. وهو :- « هل يمكن أن يوافق الطبيب أو المريض على اجراء عملية ترقيع لغشاء البكارة فى حال استلزم هذا الأمر طبيا بعد اجراء تجميد البويضات للآنسات لإعطائهم فرصة للحمل فى حال الزواج فى سن متقدم مع اعطاء شهادة مرضية لاثبات الاجراء الطبى « .. وقد قمت بصفتى كطبيبة وصحفية بتغطية هذا الحدث المهم والذى أثير فيه العديد من القضايا التى تحمل مواضيع طبية واجتماعية مفصلية وشائكة .. والمثير أيضا فى هذا المؤتمر أنه كان فى صورة « Debate» أى مناظرة طبية تجمع بين طبيبين فى كل محطة، طارحين فيها ارائهم المختلفه طبقا للموضوع محل الدراسة .. وأعجبت كثيرا بطريقة طرح دكتور أحمد الصواف لهذا الأمر خاصة انه التزم بالمعايير الطبية وحاول أن يحدث أيضا توازنا منطقيا بين ما يطلبه العلم وما يطلبه المجتمع وعرض رأيه بمنتهى الاحترام والشفافية .. ولفت ايضا انتباهى أدبه فى المناظرة وعدم سعيه لأخذ اللقطة او الكاميرا او السعى وراء النجومية لاغيا بها من امامه وكأنه فى حرب فهذه هى اخلاق العلماء التى تعودنا عليها العلماء الذين يقدمون علما ولكن بقلوب إنسانية محترمة . وهذا ليس بالغريب عنه، خاصة عندما تعاملنا معه على ارض الواقع .. فالزهرة ذات العطر الجميل الاصيل، لا يختلف على رائحتها اثنان .. فعندما تذكر سيرة هذا «الانسان» قبل أن اقول «العالم» فى أى وسط من الأوساط الطبية، لن تسمع عنه الا كل كلمة طبية وكل اطراء بإنسانيته قبل علمه .. فهو نجح فى مجاله العلمى وشهد له بالتميز فى الجراحه والحقن المجهرى بفضل الله تعالى بجدارة .. ولكنه نجح أيضا فى تقديم نفسه كإنسان بعبقرية وصدق .. أتمنى من كل قلبى أن يكون هذا المقال بداية انطلاقة وشعاع نور كاشف لكثير من الأطباء الحكماء فى مصر فبلدنا أرضها خصبة، غنية بسنابل الذهب لكن حتى تطرح هذه السنابل ذهبها لابد لها من فلاح ماهر، يتعهد أهله بالرعاية والسقاية عند النشأة . أتخيلك يا مصر .. يا بلدى الحبيبة أن تنجبين لنا ولو 100 عالم انسان فقط فى كل مجال .. حتما وقتها ،، ستستعيدين امبراطوريتك القديمة بلا ادنى شك بأمر الله تعالى .. ويجب أن نتذكر جميعنا تلك الحقيقة ان المريض قد يذهب الى الطبيب العالم ذى المنظومة الطبية المتكاملة لأنه متميزا فى مجاله وسيشفى بإذن الله وكن عندما يذهب للطبيب الانسان، فسيشفى أسرع بكثير ويخرج دون مضاعفات أعمق فى النفس من ألم المرض وسيبقى هذا العالم الانسان محفورا فى ذاكرة كل من قدم له المعروف . ويكفى أن يدعوا له بظهر الغيب فى أعماق قلوبهم .. وأن يربح كنوزا معنوية لا حصر لها ويبقى أثره بعد رحيله .. قال تعالى :- « إن نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه فى إمام مبين « .. فالطبيعة الطيبة هى من تفرض نفسها ولن يستطيع الانسان ان يخدع الناس طيلة الوقت ولن أنسى د. احمد عندما قال لى :- « احنا بنقعد فى العيادة لحد 3 الفجر عشان ناخد ثواب وعشان نعمل لان ده مصدر رزقنا الحلال « .. فماذا بينك وبين الله حتى يدعو لك كل هؤلاء الذين كانوا يتمنون ذرية وكانت الأبواب مغلقة فى وجوههم حتى سخرك الله تعالى لكى نسمع عنك كل هذا الدعاء من الكثيرين الذين لم يكن لديهم أمل فى الانجاب ومن تلامذتك والعاملين معك ومن زملائك حتى نسمع كل هذا المدح فى انسانيتك قبل علمك ما شاء الله !! حفظك الله يا مصر وزادك من الريادة أكثر وأكثر ،، فكنت ومازلتى وستزالى ارض الدين والحضارة والعلم والوحدة والحب .