كنت جالسا قبل سنوات فى مكتبى بجريدة الاتحاد الإماراتية عندما تلقيت مكالمة هاتفية من جراح صديق قال خلالها جملة واحدة من كلمتين.. تعالَ فوراً.. ثم أغلق الخط قبل ان يترك لى فرصة طرح أى تساؤلات.. صديقى الجراح كان يعمل فى مستشفى المفرق التى تبعد عن مقر الجريدة بحوالى 25 كيلو متراً.. وعندما وصلت إلى المستشفى بدأت رحلتى مع معجزة حقيقية أعتقد أنها لم تحدث ولن تتكرر أبداً.
توجهت إلى قسم الجراحة فى المستشفى لأجد صديقى الجراح يشارك زملاءه الجراحين فى نقاش غريب لم افهم منه شيئاً وكان محوره هل نسمح للمصاب بدخول غرفة العمليات أم لا فهو ميت لا محالة ولا داعى لإخضاعه لجراحة لا طائل من ورائها.. فيما فريق منهم يؤكد ان من حقه ان يحصل على فرصته حتى ولو كان الأمل فى النجاة صفراً فى المائة.. فيما كان رئيس القسم يتابع النقاش فى صمت وكأنه غير قادر على حسم القرار.
علمت من صديقى تفاصيل الحالة.. المصاب عامل بناء من بنجلاديش اسمه غلام خان فى الخامسة والثلاثين من العمر.. كان يشارك فى بناء مسجد عندما سقط من على سقالة خشبية أعلى مئذنة المسجد من ارتفاع حوالى 15 متراً على سيخ ضخم من حديد التسليح فى أحد الأعمدة.. ليخترق جنبه من منطقة الصدر ويخرج من الجانب الآخر ويظل يخترقه حتى استقر العامل المسكين على ارضية سقف المسجد.. وجاءت فرق الدفاع المدنى حيث قاموا بقص السيخ الحديدى من أسفل وحملوه على عربة نقل إلى المستشفى حيث لم يكن ممكنا نقله بسيارة اسعاف نظراً لطول السيخ الحديدى الخارج من جنبه الآخر.. كانت ضخامة السيخ الحديدى والمنطقة التى اخترق فيها جسم المصاب حيث القلب والرئتين والمعدة توحى بأنه ميت لا محالة وكانت حالته العامة تؤكد ذلك فهو فى شبه غيبوبة لا ينطق ولا يتحرك ولا تبدو عليه أى مظاهر للحياة باستثناء أنفاسه اللاهثة المتلاحقة.
دخلت غرفة العمليات مع الجراحين لأتابع مصير هذا المصاب المسكين وفتح الجراح فتحة بعرض الصدر كله.. وما ان شاهد السيخ الحديدى داخل الصدر حتى اخذ يردد كلمة واحد باللغة الإنجليزية وظل يرددها حتى نهاية الجراحة.. ليس معقولا.. لا أصدق.
كان السيخ الحديدى على بعد مليمترين من القلب وعلى بعد نصف سنتيمتر من الرئتين وعلى بعد سنتيمترات قليلة من المعدة والمرىء والقصبة الهوائية ليخرج من الجانب الآخر دون ان يصيب أياً من أجهزة الجسم الحيوية ولو بخدش.. الجراح اقسم انه لو حاول ان يدخل سيخا داخل صدر مفتوح لأحد المرضى فى غرفة العمليات لما تمكن من المحافظة على سلامة كل الأجهزة الحيوية فى صدره.. كانت معجزة غير مسبوقة وغير مفهومة بكل معنى الكلمة.. ان يسقط شخص من ارتفاع 15 متراً على سيخ ضخم ليخترق صدره من جانب ويخرج من الجانب الآخر دون المساس بقلبه أو رئتيه أو جهازه الهضمى.
بعد ان آفاق المصاب من العملية التى كانت سهلة جداً على غير المتوقع حيث لم يكن مطلوباً منه سوى سحب السيخ واخراجه وتطهير الجرح وإغلاق فتحة الصدر.. التقيت معه وعلمت منه انه يرعى أمه المسنة الكفيفة وانه سافر خصيصا ليوفر لها تكلفة علاجها من أمراض الشيخوخة وان عناية الله انقذته من أجل أمه المسنة وبفضل دعواتها له بالسلامة.. إنها الأم التى اخبرنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ان الجنة تحت أقدامها والتى أوصانا رب العزة بها فى محكم كتابه.