المدرسة المنشاوية بدأت فى سوهاج وسافر قراؤها كل دول العالم
قدمت 40 قارئاً
فى شجرة ممتدة مع كتاب الله لمدة قرنين

يُصنف فى عالم التلاوة بأنه أحد أشهر قراء القرآن الكريم فى مصر والعالم الإسلامي، ولما لا وقد نشأ وسط أسرة قرآنية توارثت تلاوة كتاب الله وجذور العائلة التى حملت اسم المدينة مسقط رأسها كلها عملت فى خدمة القرآن الكريم، الأب والجد والحفيد والأحفاد فيما بعد، واللافت أن والده كان يرفض أن يقرأ خارج محافظته فى الصعيد الجواني، أما شيخنا الابن الذى خرج عن ميثاق الوالد الذى تأثر به وحفظ القرآن فى سن مبكرة الثامنة من عمره، فقد ولد بينما ثورة 1919 تعيش توابع الزلزال الذى أحدثه سعد باشا زغلول ورفاقه بثورته ضد الاحتلال الانجليزي، فقد ولد محمد صديق المنشاوى بمحافظة سوهاج عام 1920 وتحديداً فى مركز المنشأة، وكان والده الشيخ صديق وجده تايب المنشاوى وجد والده من قراء القرآن الكريم.
الشيخ محمد صديق المنشاوى يعد نابغة من نوابغ الترتيل والتلاوة، فقد وهبه الله صوتاً مميزاً خاشعاً، واكتسب وسط أسرته الأداء الراقى بجودة التلاوة، وفى بيت القرآن بسوهاج بدأ مع «الكُتاب» خطواته الأولى على يد الشيخ رشوان أبومسلم الذى يعد أول من اكتشف طلاوة وحلاوة صوته بعد والده، وطلاقته وصوته الخاشع ذى الشجن الفريد، الذى كان به مسحة من الحزن أثناء التلاوة، لذلك أطلق عليه محبوه «الباكى والمبكي» وفى بداية حياته تعلم الكثير أثناء مرافقته لوالده وعمه فى السهرات الدينية.
مع دخوله الإذاعة مع الثورة، ذاع صيته منافساً لكبار القراء فى ذاك الوقت عبدالباسط عبدالصمد والبهتيمى والبنا والحصرى والفشنى ومصطفى اسماعيل والدمنهورى والدروي، ويتميز الشيخ محمد صديق المنشاوى بأنه تأثر كثيراً بجده صديق المنشاوى المولود عام 1898 بالمنشأة أيضا والتحق بالأزهر دارساً للفقه والحديث وعلوم القرآن العشر ورزقه الله بأسرة قرآنية نبغت فى عالم التلاوة ومنهم ابنه محمد صديق الذى بلغت شهرته الآفاق وجولاته فى عالم التلاوة، وكان المقرئ الوحيد الذى تكرمه الإذاعة بإذاعة قراءته الفترة الصباحية والمسائية، وعاش ما بين مولده 1920 ووفاته 1969 نحو نصف قرن عامرة بالإيمان وبنور الذكر الحكيم، وينطبق عليه الصدفة تصنع المعجزة، ففى احدى الليالى عام 1952 جاءته فرصة لا تتكرر أن يقرأ منفرداً فى احدى الليالي، وكانت فاتحة الخير للشهرة والمجد مع كتاب الله، نصحوه بالتقدم للإذاعة، لكنه تردد، فما كان من الإذاعة إلا أن ذهبت إليه وسجلت له تلاوته بإحدى الليالى فى محافظة أسوان، وقبل أن يتم اعتماده قارئاً بها بعد أن اخترق بصوته عالم الشهرة الواسع فى وقت كان لا حديث عن قارئ للقرآن إلا محمد صديق المنشاوي، وتكتسب عائلة المنشاوى التى تنتشر فى ربوع الوطن شهرة كبيرة، لكن القاسم والفرع الأشهر هو ذلك الذى ولد وترعرع فى سوهاج، حيث ساهمت العائلة التى وهبها الله الاهتمام وحفظ القرآن وتلاوته وتجويده حناجر مميزة تفردت فى قراءاتها بأصوات نثرت نور كلمات الله للمستمعين، إما مباشرة أو عبر أثير الإذاعة، وفى هذه العائلة هناك أكثر أو ما يقرب من 40 شخصاً كان لهم ملكة الإبداع فى التلاوة من جد الجد والأب والأبناء والأحفاد، ولقبت فى سوهاج بـ «بيت العلم» شجرة اختارت القرآن، فسخر لها الله المحبين وكان الشيخ محمد صديق المنشاوى الذى عاش نحو نصف قرن فقط من 1920/1969 وحقق خلال 17 عاما فقط قبل رحيله المفاجئ شهرة وانتشاراً مازالت خالدة رغم وفاته قبل 56 عاماً، فينطبق على الشيخ محمد صديق المنشاوى المثل الذى يقول القارئ الاستثنائى فى الزمن والمكان الاستثنائى، عندما كان يقرأ تتغير ملامح وجهه بحسب الآية من آية البشارة إلى آية الرشاد والنصح الإلهى ذبذبات صوته كان يدق قلبه بها حسب الآية الكريمة، ولا نبالغ أن أحداً لم يباريه أو يجاريه أو يقلده، كان صوته عندما يقرأ ينادى مستمعيه وكأنه يقول لك اجلس، المنشاوى يتلو القرآن الكريم.
فعلاً كان نفحة ربانية جعل الأديب محمد القوصى يقول عنه فى سرد صفاته إن أحداً لا يستطيع الاقتراب من أدائه الفريد وصوته الملائكي، والده الشيخ صديق المنشاوى 1895/1984 الذى عاش قرابة 90 عاماً وتوفى بعد ابنه الشيخ محمد بنحو 15 عاماً كان قارئاً خاشعاً يعطيك «نفساً» قرآنياً فى الخشوع والسكينة وكان له دور مهم فى تعليم ابنه الشيخ محمد صديق فى إتقان القراءات العشر، ولم يكن الشيخ محمد المثمر الوحيد فى عائلة المنشاوي، فقد سبقه شقيقه أحمد الذى كان يقال عنه من الذين عايشوه إنه عبقرى تلاوة وحنجرة ذهبية، لكن اختطفه الموت سريعاً فلم يترك أثراً، وشقيقه الأصغر الشيخ محمود صديق المنشاوى المولود فى الأربعينيات 1943، فقد لمع مع مسيرة شقيقه الأكبر الشيخ محمد، لكن لظروف صحية عاد إلى مسقط رأسه سوهاج وله ابن أيضا شغل منصب أمين عام نقابة محفظى القرآن هو الشيخ صديق محمود المنشاوى.
من المنشأة حمل الشيخ محمد صديق المنشاوى المتجذر فى عائلة ارتبطت بالصعيد رسالته مع القرآن ليتلوه فى عموم القطر المصرى قبل أن يسافر فى بعثاته إلى الدول العربية والإسلامية فى رحلة لم تستمر طويلاً لكنها أثمرت كثيراً.. فهو الشيخ الذى بحثت عنه الإذاعة أمام صيته الجارف لكى تسجل معه وتعتمده قارئاً.
زار الشيخ محمد صديق المنشاوى العديد من الدول العربية والإسلامية وحاز على أوسمة متعددة، بالإضافة إلى مصر، نال وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى من الرئيس الأندونيسى أحمد سوكارنو.
النشأة والمولد
ولد الشيخ محمد صديق المنشاوى وسط أسرة قاموسها حفظ القرآن وتلاوته وترتيله، وفى هذه المدرسة المنشاوية حيث جد الجد والأب يهتمون بعلوم القرآن الكريم والأزهر الشريف، فى هذه المدرسة كان الطفل محمد محاصراً بسور القرآن، وبالتالى لم يجد صعوبة فى الالتحاق بهذه المدرسة، فالأرض ممهدة ببنود التلاوة التى تعلم فيها منذ أن رأت عيونه نور الدنيا ومعها حمل سمات الصالحين ومع الكُتاب تعلم أول خطواته فى عالم القراءة وحفظ القرآن وعمره 8 سنوات على يد شيخيه محمد السعودى ومحمد أبوالعلا، والحقيقة لم يجدا عناء فى تعليمه، فالأرض ممهدة والتلميذ محمد كان موهوباً ونابغة.
مرافقة والده وعمه
فى هذا العمر المبكر كان الشيخ محمد مرافقاً دائماً لوالده وعمه فى ليالى الذكر بالصعيد وذاعت شهرته بين قرى ومدن الصعيد أن شاباً جميل الصوت والتلاوة يعكس أداء منقطع النظير لمن يسمعه وصوته يعانق السماء عندما يقرأ، وبدأ من يحضرون مناسبات دينية أو عزاء فى الصعيد وتحديداً بالمنشأة أو مراكز سوهاج الأخرى طما وجهينة وجرجا وغيرها، لا حديث إلا عن ابن المنشاوى القارئ الجديد، الذى كان رحل عن المنشأة إلى القاهرة وعاد مرة أخرى إلى سوهاج، ومع الشيخ رشوان أبومسلم أتم رحلة الحفظ، ولنبوغه كان الشيخ رشوان أبومسلم لا يتقاضى أجراً مقابل تحفيظه القرآن الكريم.
الإذاعة تذهب إليه
بعد أن أصبح حديثاً للسميعة فى الصعيد الجوانى وزحف إلى الدلتا وبعد أن جاءته فرصة القراءة عام 1952 منفرداً فى احدى الأمسيات، انتقلت الإذاعة المصرية إلى أسوان فى احدى الليالى وسجلوا له وقدموا الشريط للإذاعة فاعتمدته، وربما يعد من القلائل فى زمانه الذين بحثت عنهم الإذاعة.
واللافت أن الشيخ محمد ووالده أجيزا فى الإذاعة عام 1954 وكان يجب أن يجيزا أحدهما، فآثر الوالد على نفسه وقدم ابنه الشيخ محمد وقال يكفى واحد من آل المنشاوى فى الإذاعة وتعهده وقتها الشيخ محمد سلامة واستمع إليه عباقرة التلاوة، فأعجبوا به وكان أول المعجبين الشيخ طه الفشنى وقربه منه مع الشيوخ مصطفى اسماعيل والبنا وعبدالباسط والحصري، ومع قبوله بالإذاعة توالت تسجيلاته الإذاعية.
أبكى عبدالناصر.. والمصحف المرتل
كان الرئيس جمال عبدالناصر من المستمعين والمحبين للشيخ محمد صديق المنشاوي، وفى أحد الأيام وجه له الدعوة للمشاركة فى إحياء مأتم والده بالإسكندرية، وبعد انتهاء المأتم طلب منه عبدالناصر أن ينام فى الغرفة المجاورة له وعندما أشرق الصباح طلب منه أن يستمع لبعض الآيات، وبعد 10 دقائق بكى عبدالناصر متأثراً من صوته الذى يحمل مسحة الحزن وأصدر قراره للشيخ محمد صديق المنشاوى بتسجيل المصحف المرتل للإذاعة المصرية.
تكريم فى ليلة القدر
بعد وفاة الشيخ محمد صديق المنشاوى بنحو 23 عاماً فى ليلة القدر عام 1992، كرمته الدولة بمنح روحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى وإطلاق اسمه على أحد شوارع الجيزة، وكان قد اختير فى كثير من الدول قارئ القرن العشرين.
آل حزين وآل المنشاوى
إذا ذكر صعيدى كلمة «بيت العلم»، فكان يقصد بها أسرة المنشاوي، وأسرة المنشاوى كانت محبوبة لدى أسرة «حزين» فى إسنا، ومن مشاهير هذه العائلة «آل حزين» الدكتور سليمان حزين مؤسس جامعة أسيوط وعبدالمنصف حزين الذى تولى محافظات بنى سويف وقنا والمنوفية فى عهد الرئيس السادات فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضي، وكان من عادة أثرياء الصعيد أن تدعو قارئاً مشهوراً لتلاوة القرآن فى رمضان، وكانت عائلة حزين حريصة على صحبة عائلة المنشاوى ودعوة الشيخ محمد صديق لإحياء ليالى رمضان فى إسنا.
وفى سنة 53 سجلت الإذاعة المصرية للشيخ صديق الذى كان ضيفاً على عائلة آل أبورحاب فى العسيرات التابعة للمنشأة وسجلت أيضا لوالده الشيخ محمد صديق الذى كان ضيفاً على آل حزين فى إسنا واعتمدا وفضل الأب الابن بالقبول وقبِل محمد صديق المنشاوي، وأقنع اللواء عبدالفتاح الباشا الشيخ محمد بالموافقة على القبول، ولم تكن علاقة صديق الأب والابن محمد بالعائلتين فقط، بل امتدت لكل عائلات الصعيد فى المنيا وأسيوط وأسوان، وقد يستغرب القارئ إذا علم أن عائلة «آل عبدالنور» الأقباط الأرثوذكس كانوا أيضا يقيمون ليالى رمضانية وقرآنية بحضور كبار الشيوخ من المنشاوى وأبوالعينين شعيشع وغيرهما، وكان معروفاً فى الدواوين ومناضر العائلات الصعيدية علاقتها بالقراء المشهورين فى هذا الوقت المبكر من القرن الماضى الذى لم يعرف التعصب والكراهية.
المنشاوى فى أخميم
هنا وفى سيرة الشيخ محمد صديق المنشاوى المبكرة أنه قرأ القرآن فى قرية «ابارا الملك» التابعة لمركز أخميم وبحضور الإذاعة المصرية وقدم بجمال صوته قراءة تعيد تسجيلها الإذاعة وكانت بجوار تسجيل أسوان فى مسودة قبوله بالإذاعة.
التخلص من المنشاوى بـ «السم»
تعرض الشيخ محمد صديق المنشاوى لمؤامرات من الحاقدين عليه والكارهين لجمال صوته، ففى مرة كان مدعواً لإحياء ليلة فى المنيا ودبر المتآمرون عليه وضع السم فى الطعام بهدف التخلص منه، لكن الطباخ استيقظ ضميره فجأة وأخبر الشيخ محمد صديق المنشاوى بأن هناك مكيدة للتخلص منه وقتله، وتمت نجاته من الموت.
قصته مع السيدة الصعيدية
بينما كان الشيخ محمد صديق فى احدى المناسبات ويهم بركوب السيارة، وإذا به يسمع صوت امرأة تقول وهى من قرية فى الصعيد: لو كان معى المال لأحضرت هذا الشيخ صاحب الصوت الجميل فى ليلة ختان أولادى ولم تكن تدرى أن الشيخ محمد صديق يسمعها، فقال لمن معه من أهل القرية هل تعرفون هذه السيدة، فأجابوه نعم، فأخرج بعض من ماله الخاص وقدمها له وقال لها جهزى الحفل يوم وحدد اليوم وأحيا الليلة مجاناً.
مع الباشا فى بورصة القطن
يقول الشيخ محمود المنشاوى إن والده الشيخ محمد صديق المنشاوى كان قد تلقى دعوة من أحد أعيان الصعيد حمادة الشريف باشا وكان الرجل يقيم الولائم والمآدب فى شهر رمضان، وفى احدى السنوات اشترى الرجل فى نهاية الأربعينيات تقريباً آلاف القناطير من القطن بأعلى سعر وداهمت البورصة السعر وأعلن الرجل الثرى إفلاسه، ومع اقتراب الشهر كتب حمادة الشريف باشا خطاباً للشيخ يقول فيه إنه لم يعد قادراً مالياً على إحياء ليالى رمضان هذا العام، وما معناه ألا يرتبط بدعوته، وترك الشيخ محمد صديق المنشاوى الخطاب جانباً، وفى ليلة رؤية الهلال أرسل إلى بيت الباشا حمادة الشريف ما يلزم لإحياء هذه السُنة وعاد الرجل إلى ديوانه فوجد كل الترتيبات معدة كما كان قبل إفلاسه، وأن الشيخ محمد صديق المنشاوى يقرأ القرآن، وظل الشيخ يقوم بهذه العادة لمدة 8 سنوات حتى توفى الباشا حمادة الشريف، ويقول لمن يقابله إنه الوفاء، لا أنسى طيلة حياتى أن حمادة باشا الشريف وقف بجوارى حين كانت حالتى المادية بسيطة جداً فكان يعطينى 50 قرشاً كل يوم.
ليلة القدر فى السيدة
أول مرة قرأ فيها فى مسجد السيدة زينب يقول فى حوار صحفى لمجلة «آخر ساعة» فى عام 1969 طلبه المذيع أحمد فراج وأبلغه بأن الشيخ مصطفى اسماعيل سيفتتح الحفل بليلة القدر فى السيدة زينب، وأن الشيخ محمد صديق سيختمه ونظراً لأنها مفاجأة له فتقبل الموقف وختم الاحتفال وسط جمهور كبير من المسئولين والمستمعين، فكانت فاتحة خير لى مع عالم التلاوة وهذا ليس غريباً من رجل عائلته قدمت 40 قارئاً تقريباً لعالم التلاوة.
الوفاة
بينما نجم الشيخ محمد صديق المنشاوى يلمع كشيخ ينتمى إلى «بيت العلم» السوهاجى هاجمه المرض عام 1966 بإصابته بدوالى «المرئ» ونصحه الأطباء بالراحة وعدم إجهاد الحنجرة، لكن الشيخ محمد صديق لم يصغ جيداً لنصائح الأطباء وظل فى مسيرة القراءة ولم يمهله المرض طويلاً، وأمر عبدالناصر بسفره وعلاجه على نفقة الدولة فى لندن، لكن الموت كان أسرع، فتوفى فى 20 يونيو 1969 ودفن فى مقابر الأسرة التى مازالت تحمل اسمه حتى اليوم مسجلاً عليها تاريخ ولادته و وفاته بعد رحلة حافلة بنعيم القرآن استمرت نحو نصف قرن قدم خلالها بصوته رسالة خالدة لمحبى سماع القرآن الكريم فى مصر والعالم العربى والإسلامي، بعد أن حصل على تكريم أوسمة وكان قد سجل للإذاعة البريطانية 7 أشرطة ومثلها للإذاعة السورية.