قال بغير مقدمات وبعد أن تجاوز مجاملات اللقاء بعد طول غياب انه عاش تجربة شديدة الصعوبة، بل هى الأصعب طوال حياته وأنه خرج منها باعتراف ليس وليد إكراه، بأنه كان ظالما، وان ضحية ظلمه هى أقرب الناس إليه.
كان صديقى مجهدا منهكا.. كانت علامات الإعياء ظاهرة واضحة مجسمة على كل ملامحه.. قال بغير مقدمات وكأنه يريد أن يتخلص من عبء جاثم على صدره: ظلمت زوجتى.. لا تتعجل.. لم أسئ يوما معاملتها ولم أفعل أبدا ما يغضبها.. فهى أم أولادى ورفيقة عمرى وحبيبة قلبى.. وهى من توجت عنقى بصبرها فى أصعب اللحظات التى مرت علينا وبصمتها وعزوفها حتى عن العتاب، رغم كونها تعيش تحت سقف بيت واحد مع رجل مشغول دائما عنها وعن أبنائه بسبب العمل الذى لا يرحم والذى يستقطع منه يوميا قرابة 12 ساعة، والذى لا يعترف لفترات طويلة قد تمتد شهورا، بالاجازات الأسبوعية والموسمية وحتى بالعطلات الصيفية.. ولكنى فى لحظات الخلاف العابرة كنت أتحدث طويلا عما أعانيه من تعب وإجهاد من اجل تأمين الحياة اللائقة لها ولأبنائنا، وعندما كانت تشير فى حياء إلى أنها أيضا تتعب وتشقى لأجل سعادة أسرتنا ورعايتنا جميعا كنت أعقب على قولها بأنها متفرغة للبيت وأن مشقة رعاية أبنائنا الثلاثة لا تعادل نصف ما أعانيه من مشقة العمل ومتاعبه.. وأعترف الآن أن قولى هذا كان يحمل الكثير من الظلم من جانبى وهو ما اكتشفته خلال الأسابيع الثلاثة الماضية بعد أن مررت بتجربة شديدة القسوة وعشت أياما شديدة الصعوبة.
يستطرد صديقى: حدث ذلك قبل حوالى شهر.. عانت زوجتى من مشاكل صحية لم تستطع كتمانها كعادتها.. كانت آلامها لا تحتمل الأمر الذى جعلنى أتوجه بها إلى قسم الطوارئ فى مستشفى خاص.. وهناك خضعت لعلاج مكثف وقرر الأطباء إخضاعها لجراحة طارئة لاستئصال ورم نسائى ضخم ثبت انه حميد والحمد لله.. وعلى مدى ثلاثة أسابيع جلست مع الأبناء فى البيت بعد أن حصلت على إجازة طارئة.. وشاهدت وعشت ما لم أكن لأصدقه لولا هذه التجربة.. كنت تقريبا لا أنام طوال اليوم لأكثر من ثلاث أو أربع ساعات.. كان يومى يبدأ من الساعة الخامسة صباحا ويستمر حتى الساعة الثانية أو الثالثة من صباح اليوم التالى.. عمل بلا توقف.. معاناة بلا انتهاء.. إجهاد بلا حدود.
المشكلة أن أطفالنا الثلاثة فى سن صغيرة.. ويحتاجون إلى من يرعى كل شئونهم.. طفلتى التى لم تتجاوز الأربعة أعوام تحتاج من يصفف شعرها ويساعدها على ارتداء ملابسها ويتحايل عليها بكل وسائل الترغيب لتتناول إفطارها قبل التوجه إلى المدرسة.. تحتاج إلى من يقف أمام مدخل العمارة فى انتظار باص المدرسة ليستقبلها.. تطلب تناول الطعام فور دخولها البيت.. الطفل الأصغر الذى لم يتجاوز العامين ونصف العام يحتاج إلى من يشرف على نظافته ويطعمه.. الطفل الأصغر يحتاج إلى من يرضعه كل 6 ساعات.. ولا يحلو له البكاء إلا فى ساعة متأخرة من الليل.. كنت مطالبا بأن أكون طباخا ومربية اطفال وعامل نظافة وطبيبا ومدرسا خصوصيا.. شعرت مرارا بأن ساعات اليوم لا تكفى للقيام بكل الواجبات المنزلية.
اعترف: فى غياب زوجتى ارتبك كل شىء فى البيت.. تراجعت صحة الأبناء.. وتراجعت صحتى معهم.. وزاد تقديرى لصمتها الرائع.. كنت دائما أشكو من التعب وأتحدث عما افعله لأجل أسرتى.. وأبدا لم تتحدث هى عما تفعل لأجلنا.. أليس ذلك شكلا من أشكال الظلم؟.