عاد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة ثانية، نافشا ريشه، يختال ويتبختر ويجر أذيال ثوبه تفاخرا، كما لو كان طاووسا يتباهى بجمال منظره ورشاقة خطوته، يلقى بالأوامر ويعلن فرض قراراته، ولم يسلم من تصريحاته جيران بلاده المكسيك ولا بنما أو كندا، ولا الدنمارك فى أوروبا وحلف الناتو والاتحاد الأوروبى، ولا شرق الكرة الأرضية، فيعيد مناوشة الصين، وروسيا وكوريا الشمالية.
وفى الساعات الأولى من جلوسه فى المكتب البيضاوى، سل ترامب قلمه ووقع بخطه العريض الذى يبدو كأنه يستخدمه للتهديد وإظهار القوة والتلويح بالعصا لمن عصا، وأصدر فرماناته، ومنها إنهاء المواطنة بالولادة للمهاجرين غير الشرعيين، وإعلان الطوارئ على الحدود، والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ وإلغاء عقوبات المستوطنين الإسرائيليين المتهمــين بالعنــف ضد الفلســطينيين، وأبطل 78 إجراءً تنفيذيا لإدارة الرئيس السابق جو بايدن.. وأصدر قرارا بتخفيف أحكام 14 من المتهمين والعفو عن المدانين فى جرائم لها صلة بأحداث الشغب أثناء اقتحام الكابيتول فى 2021، وقال ترامب إن الولايات المتحدة ستنسحب من منظمة الصحة العالمية.
ومن ضمن القرارات، إيقاف الحروب وجلب روح جديدة للعالم، لكن ذلك لا يبدو صحيحا، ويعمل فقط لما هو فى مصلحة بلاده، ظالمة أو مظلومة، بالقوة أو بالانصياع، بما يؤكده قوله إن «العهد الذهبى للولايات المتحدة قد بدأ»، وأوضحت صحيفة واشنطن بوست أنه من المتوقع أن يتم الطعن على كثير من قرارات ترامب أمام القضاء.
ويرى كل الخبرء والمحللين السياسيين أن ترامب لا يتعامل بمنطق الرئيس والسياسة والدبلوماسية، إنما بمنطق المقاول والربح والخسارة «المادية».
وهنا أتساءل، لماذا لم ينسحب ترامب من منظمة الأمم المتحدة؟، والإجابة ببساطة لأنه يحقق من ورائها مكاسب لا يمكن تحقيقها إلا من خلال قرارت الهيمنة التى تصدر عن المنظمة الدولية والتى هى فى الواقع أصبحت «الأمم المتحدة الأمريكية»، تتحكم فيها واشنطن وتوافق وترفض ما تراه فى صالحها، وما حق النقض «الفيتو» إلا واحدا من الأسلحة التى تستخدمها أمريكا ضد الآخرين وخاصة العرب والشرق الأوسط وحماية مصالحها ومصالح ربيبتها غير الشرعية الدولة الصهيونية التى تعيث فى المنطقة فسادا، تعبث بالأمن والاستقرار، تقتحم جنوب لبنان وترفض الانسحاب وتنفيذ اتفاق وقف الحرب، ثم تضم 60 كيلو مترا من أراضى سوريا فى ظل الفوضى وانتقال الحكم إلى «سلطة الأمر الواقع».
ومازال المخطط الأمريكى فى المنطقة يسير نحو التنفيذ، ولا يختلف من إدارة أو أخرى، يستهدف فى المقام الأول تحقيق التفوق للجيش الصهيونى على جيوش الإقليم، باعتباره أحد أذرع الولايات المتحدة، وتغدق عليه بالعطايا والإمدادات اللوجستية والأسلحة والمعلومات وكل أنواع الدعم بلا حساب وتنفق عليه أكثر مما تنفق على جيشها.
حتى الاتفاق الأخير مع حماس، وهو فى بدايته لا يمر يوم دون أن تختلق إسرائيل حججا واهية وتضع العراقيل، وتبتدع الأسباب لتتنصل من بعض ما وافقت عليه كأنها نادمة على «السلام» وإنهاء الحرب، بل وتشعل النيران فى الجانب الآخر تقتل وتبيد الفلسطينيين فى مدينة ومخيم جنين، وتدمر البنية التحتية، وتعيد جرائمها التى استمرت 15 شهرا فى قطاع غزة ودمرت 85 ٪ منه تماما، ومازالت تواصل وحشيتها، وما كان ذلك كله ليتم لولا الغطاء الأمريكى لتل أبيب.
وعلى عكس كل الطرق المعروفة، لم «يستفرد» الرئيس الأمريكى «بفرائسة» واحدة تلو الأخرى، ليصطادها بسهولة، إنما هب مرة واحدة مثل الريح العاصفة، فى كل الاتجاهات ينفخ فى النيران، كما بدأ مبكرا ابتزاز بعض الدول بطلب مليارات الدولارات، بحجة الاستثمار، بينما لا تعدو أن تكون إتاوات يفرضها عنوة.
ترامب يسير فى طريق وعرة، يحاول التغلب عليها بالقوة والتهديد، ولا أحد يستطيع الآن التنبؤ بنتائجها، لأن معظمها يتوقف على رد فعل الأطراف الأخرى، تقبلها أم ترفضها أم تهادن لتجنب الويلات، فيما يزيد ترامب من العداوات، والأمر بالمواقف وليس بالأمنيات.