عقل الكاتب في قلمه؛ فالقلم ترجمان العقل، وما يجود به العقل، يترجمه القلم..
القلم يبنى صرح الحضارات، ويحرك عجلة المجتمع، ويؤسس الوعي أو يزيفه، يصون الأخلاق أو يهدمها.. القلم يشرح ببكائه صرخة الحياة وآلام الإنسان، وتعبر ابتساماته عن الحب وحيوية الحياة وشتى صور الجمال.
أصحاب القلم هم صناع الأفكار والخيال، والنهضة إن هم أحسنوا القول وتخيروا موضوعاتهم وتبنوا قضايا أمتهم.
القلم إذا حمله أصحاب الضمير صار للخير بشيرًا، وإذا وقع هذا القلم بأيدٍ جفاة جرت سيول الدماء من قطرات دموعه ، كما تكون ابتسامته استهزاءً بأنبل القيم الإنسانية.
فما أكثر الظلم والجور والجرائم التي ترتكب من مداد القلم! وهنيئاً للأقلام التي تتحرك في خط الحق والعدل والعلم والمعرفة والإنسانية وتنتج الخير والفضيلة.
إذا كنت من حملة الأقلام، فاعلم أنك مسئول عما تخطه أناملك وقد أقسم الله به، في سورة سُميت باسمه بدأها الله سبحانه وتعالى بقول «ن والقلم وما يسطرون» هناك قلم يحرر العقول من ظلمات الجهل والخرافة والنفاق.. وهناك قلم يقرر ويحسم أمره من البداية فينحاز لما يعتقده صوابًا، ولا يعرف المداهنة ولا المهادنة يحسم كل موقف ولا يقف في المنتصف أو يمسك العصا من المنتصف وما أكثر من يمسكون العصا من الوسط؛ وهؤلاء تضيع الحقائق على أيديهم وتتوه العقول في دروبهم..هؤلاء من يضلون الناس على علم.. وهناك قلم يبرر.. وقلم يحاول أن يمرر ما بتفق مع المصالح الخاصة أينما سارت، ولا يرى غضاضة في تبنى الشيء ونقيضه..هناك قلم أمير لا يصدر إلا عن قناعة وإيمان..وقلم أجير يهلل لمن يدفع، وهذا قلم أسير لا يصدر عن قناعة ولا يملك إلا السمع والطاعة.
هناك قلم يستفز العقول ويثير المعارك ويفتح الآفاق للاختلاف والتنوع؛ وهذا صوت العقل والضمير إذا انحاز للحق واستهدف الصالح العام؛ فيثور على الأفكار البالية والعادات الباطلة، يقرع الطبول وينبه لمواطن القصور ويتحمل الأذى من أهل الباطل وزبانية التخلف الذين يريدون بقاء الحال على ما هو عليه؛ وليس في الإمكان أفضل مما كان..!!
ويروقني قول القائل « لَمْ أَرَ بـاكِياً أَحْسَنَ تَبَسُّماً مِنَ القَلَم ؛ فدموع القلم تروى العقول وبها يسطع نور الحقيقة وتنجلى ظلمات الجهل وتنقشع الأوهام للاستيقاظ من الغفلة.
وهناك قلم يعزف، وقلم مدهش، وقلم منعش، وهناك قلم ظاهر، وقلم قاهر، وآخر طاهر، وهناك قلم متطور، وآخر متورط.. وهناك قلم ممتع، وآخر معتم.. وهناك قلم حزين، وآخر يتألم وقلم يبعث الضوء، وقلم ينفث السوء..تعددت الأقلام والحبر واحد..فاحرص على الصدق فيما تكتب، وتخير ما تقرأ واعرف لمن تقرأ.
ويعجبني قول القائل :» إن القلم هو الوسيلة القادرة على تغيير وانتقاد ووصف كل شيء في أي زمان ومكان، فلا حدود لحروفه، ولا قوة تقف سدا في وجه طوفانه، في استطاعته أن يُقيم دولا ويُسقط عروشا بجرة واحدة كما يقال.. كان ولا يزال، العدو الأول لأصحاب السلطة والنفوذ، والملاذ الآمن لهواة المدح والثناء، خُطّتْ به سِيَرٌ، ووُثّقتْ به عِبرٌ، وحُفظَ به تاريخُ الأولين والآخرين، ومُجّدتْ به حِقبٌ، ونُسفتْ به حضاراتٌ، وصِيغتْ اعترافاتٌ، ودُوّنتْ به علومُ الإنسان وأسراره، فلولاه ما كنا لنظفر منها بشيء أو نغرف منها غرفة علمٍ واحدة، فالقلم وجدان الإنسان وكيانه، ومرآة دواخله وأحاسيسه، وسفير عقله وبريد قلبه، فهو المترجم الحذق الذي يستطيع أن يجسد ما يدور في مخيلة الكاتب وينقله كما هو إلى الواقع ليصبح كتابا مخطوطا في متناول الجميع، فضله علينا لا ينكره عاقل أو سابح في أصناف العلوم ودروبها.
الكلمة أمانة ثقيلة ورسالة مقدسة رفعت القلم مكانة سامية فأقسم الله به في مطلع سورة سماها العلى الحكيم باسمه تشريفاً وتعظيماً؛ تلك الأمانة دائماً ما يطالب الرئيس السيسي أصحابها بأن يراعوا الله فيها ما استطاعوا؛ فأجرها عند الله كبير..وليست الكلمة فقط حروفاً مكتوبة في صحيفة، ولا حروفاً منطوقة تجري على ألسنة المذيعين وضيوفهم بل هي كل قول ينطق به داعية أو مفكر أو نخبة أو ساسة معارضة أو مؤيدين وكل صاحب تأثير في مواقع التواصل الاجتماعي بشتى صورها ..وما أخطر أثرها في الفضاء المفتوح.
القلم رسالة قبل أن يكون وظيفة أو أكل عيش..و الرأي أيا ما كان صاحبه أمانة أخلاقية..وإذا كانت القدم تترك أثراً على الأرض كما يقول المثل فإن لسانك يترك أثراً في القلب والعقل والوجدان..ورب كلمة ألقاها صاحبها دون أن يلقي لها بالاً فتحدث تأثيراً مدويًا وربما يهوى بها في النار سبعين خريفاً كما قال سيد الخلق الذي يحضرنى ما قاله رداً على الصحابي معاذ بن جبل الذي قال: «يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم».
إن ما تسطره الأقلام وتذيعه الألسن وسيلة بناء أو هدم للمجتمعات، وهذا ما أكدته أبحاث كثيرة أجراها باحثون غير مسلمين لتؤكد صدق ما جاء به الإسلام بشأن خطورة الكلمة التي أمرنا الله تعالى أن نتخيرها حتى لا نؤذي بها غيرنا فقال تعالى: «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى» (البقرة:263) وقال أيضاً :» واجتنبوا قول الزور» (الحج:30)..ولأن الكلمة رسول للقلوب فقد قال الله سبحانه وتعالى في أشرف الأمور وهي الدعوة إليه: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هى أحسن» حتى تحدث الكلمة أثرها الإيجابي في نفوس المخاطبين بها حتى ولو كانوا متجبرين منكرين لدعوته كما في حال فرعون مع دعوة موسى الذي أمره ربه ومعه أخوه هارون بأن يلينا له الكلام بقوله :»اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى» (طه:44،43).
رفيعة هي منزلة أصحاب القلم والكلمة عند الله والناس؛ لكن أي الأقلام وأي الإعلام يستحق تلك الدرجة الرفيعة وذلك التكريم السامي.. هل يستوي الأخيار والأشرار..هل يستوى المنصفون المخلصون والمغرضون الأفاكون..هل يستوى المعتصمون بالحق الثابتون على المباديء ومن يروجون للباطل ويدعون للزيف والبهتان..من يتحرى الصدق والموضوعية والأمانة المهنية متثبتاً من كل معلومة مهما يكلفه ذلك من مشقة وتعب ومن يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون وينتهكون الميثاق ويشيعون الكذب ويطلقون الشائعات ..من يؤدون أمانة الكلمة ويوفون بعهدهم وقسمهم ويدفعون ضريبة الثبات على الحق ومن يستسهلون التلون والخداع والنفاق ويهادنون الفساد رغباً ورهباً ..هل يستوي من يهدون الناس سواء السبيل ومن يضللونهم ويشغلونهم بالغيبة والنميمة ونهش الأعراض والتجريح واغتيال سمعة الأبرياء والفتن ..من يرسمون لوطن طريقه للمستقبل ويتخيرون له أولوياته الواجبة دون إبطاء ولا ارتجال..فهل يدرك من يحمل قلمًا أو يملك نافذة للتأثير في الجمهور في الفضائيات أو السوشيال ميديا أن كلماته أمانة سيسأل عنها أمام الله؟!