دعا الإسلام إلى هزيمة العجز والتغلب عليه، وملأ قلب المسلم بالأمل ومغالبة الصعاب، وامتلأ التراث الإسلامي بنماذج متعددة لأناس ابتلاهم الله في أبصارهم أو أرجلهم أو سمعهم.. إلخ، ومع ذلك غلبوا المحنة، وهزموا العجز بالتحدى والطموح والأمل والإرادة والعزيمة القوية، بل اضطلعوا بدور كبير مهم في العلم والحضارة والبناء، وحولوا هؤلاء عجزهم إلى نجاح، بعد أن فشل اليأس والإحباط في النيل من عزيمتهم.
وكل ذلك درس عظيم من الهجرة النبوية، حدث فيها امتزاج النفس بشعار: «لا تحزن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» فاستطاع المسلم الانتقال من حالة العجز واليأس والكآبة والإحباط، إلى حالة الأمل والثبات والثقة واليقين والسكينة، ليأخذ دفعة قوية نحو العمل والجدية والطاقة الإيجابية، ونشر الأمل، وعودة القيم، والتفاني والاجتهاد.
وهو المعنى الذي استحضره الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- في الهجرة النبوية، عندما خاطب أبا بكر الصديق: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا»، كانت لحظة كرب، وخطر محدق، فسيوف الأعداء فوق رؤوسهم، وارتفع منحني الشعور بالخطر، وانعدم الأمل، ثم انزل الله: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا »، فحدث تحول هائل في المشاعر، ورجعت الثقة في القدرة على اجتياز الصعاب.
إن الإنسان حين يرى نفسه وقد أصيب بالعجز، وطارده الهم وأضحى كل شيء عسير المنال يفتش في كتاب الله، فيرى في القرآن شعاعا يغلب به العجز، ويبدد اليأس، ويعيده إلى توازنه أمام سيل جارف من الإحباط، ولذلك كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من العجز والكسل.
ولقد تعددت عناصر الأمل وهزيمة العجز في القرآن الكريم كقوله: «هو أنشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» فهو يبعث الأمل في النفوس ببيان أن رحمته قريبة، ولطفه عاجل وقوله: «حتى إِذَا اسْتَيْتَسَ الرُّسُلُ وظنوا أنهُمْ قَدْ كَذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْم الْمُجْرِمِينَ»، وقال لسيدنا يحيى – عليه السلام: «يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ»، أي بجد وحرص واجتهاد، فالقوة هي تمام الفهم الواعي، والإصرار على النهوض والاجتهاد بالأعباء، واللحوق بأهل الكمال والإنجاز.
وللأستاذ أحمد سويلم كتاب مهم عنوانه (مسلمون هزموا العجز) جمع فيه نماذج مضيئة في الطموح والإرادة وهزيمة العجز، ومن هؤلاء ترجمان القرآن «عبد الله بن عباس» وأحد العشرة المبشرين بالجنة عبد الرحمن بن عوف، وشاعر الإسلام حسان بن ثابت»، وفيلسوف الشعراء «أبو العلاء المعري»، ورائد علم الحديث ابن سيده، ورمز العربية أبو الأسود الدؤلي»، والطبيب الكبير «داود الأنطاكي»، وحجة اللغة والأدب الزمخشري»، وإمام القراء الشاطبي»، فهؤلاء تمردوا على المحن بالتحدى والطموح والإرادة والأمل والتوكل على الله والأخذ بالأسباب.
وقد ربط علماؤنا بين صناعة الهمة وهزيمة العجز بالفهم الصحيح للعبادات، فقالوا أن صناعة الهمة ثمرة من أكبر ثمار العبادات، على أساس أن العبادات تصفى طبع وخلق ونفسية العابد من الوهن والترهل واليأس والقنوط، وتربطه بالله، فينصهر قلب الإنسان بمعرفة شرف الاستمداد من الله- سبحانه- في كل حال، فلا يغلبه بعد ذلك حزن، ولا قبض، ولا تتسرب إلى بواطنه بواعث الوهن والضعف والتخاذل، ولا يعتريه السام، ولا الفتور، ومن ثم تختفى العلل النفسية شيئا فشيئا.
والحاصل أن العجز والكسل «مفتاح كل شر»، والأمل والثقة واصطحاب معية الله «مفتاح كل خير»، وقد جاءت الهجرة النبوية لترفع شعار الأمل والثقة: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا».