الوصف القريب لمسيرته الثرية أنه خارج التصنيفات وأبلغ من قواميس المفردات التى ننتقى منها تدوين الأوصاف، فقد كان معبرًا ومبهرًا.. وحالة متفردة لا تطول قامته قامة.. أبلغ فى مواهبه المتعددة رسمًا وكلامًا وفنًا وتمثيلاً وكتابة وفلسفة.. وأروع ما فيه أنه ينبض ببراءة طفولية خالصة ويضحك ويبكى كطفل وكذلك يغنى ويمرح.. فهو «حدوتة مصرية أصيلة» قدم نفسه بديوان «كلمة سلام».. وكان يرسم به خريطة اجتماعية للدولة.. أما الثانى «موال عشان القنال» كان عنوانًا للوطنية التى ترجم فيها مبكرًا أفكاره سياسيًا وثقافيًا ووطنيًا.. «غاص» وسط الفلاحين والعمال الشقيانين والأمهات العاملات والمربيات الفضليات كان كوكتيلاً ثقافيًا واسعًا متعدد المواهب.. علمته أمه بداية الحروف الإنجليزية لكنه كان مرتبطاً بالقومية العربية.. دخل التعليم وتفرغت له أمه لكى تربى الولد البكرى لها وتخلت عن عملها فى كنف والده القاضى العادل والمستشار الرزين وهو حفيد الثائر المناضل بجوار الزعيمين محمد فريد ومصطفى كامل.. كان له قراره ألا يرتدى «جلباب» والده الذى كان أمله أن يكون مستشارًا قاضيًا مثله.. ودخل كلية الوزراء «الحقوق».. لكنه كان داخله ما يشده إلى فن آخر هو الشعر والكتابة والرسم.. ويومًا واجه والده وقال له «سيعرفوك بأننى ابنك».. وقد كان وصدقت مقولته لوالده..
ولد وسط أزمة اقتصادية تجتاح العالم الخارج من حرب عالمية ومصر فى نفق احتلال بغيض وبعد وفاة سعد باشا زغلول وقبل معاهدة 1936 وعندما وصل التاسعة اندلعت الحرب العالمية الثانية وعندما بلغ الـ 18 كانت النكبة وحرب 48 ومع بلوغه 21 تمامًا نهض صباحًا على حريق القاهرة.. ولم يدر أن حريق القاهرة سيكون مع «الفالوجا» وحصارها ونصيحة عزيز المصرى الذى كان جده الثائر يعرفه ستولد ثورة جديدة فى مصر.
كان معها شاعرًا ومثقفًا وأديبًا وفنانًا شاملاً ونبضًا لشارع وطنى يغنى بأمجاد وطن.. وهنا بحماسه الشعرى مع الفصحى والعامية زاوج بينهما «الفصحى والعامية» وخرج بلغة ثالثة ظلت خالدة هى لغة الرجل الذى أطلقوا اسمه تيمنًا بصلاح الدين وهو محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمى الذى اشتهر بالأيقونة «صلاح جاهين».
ولا أبالغ القول إن صلاح جاهين لا يوجد واحد من أبناء ثورة يوليو لم يردد كلماته ونحن أبناء ثورة يوليو التى يمر عليها نحو 73 عامًا عشقوا كلماته حتى الذين اختلفوا معها.. فقد ترجم لغة شعب أحب النكتة والضحكة وعبر بها عن أزماته السياسية وأوجاعه الاقتصادية وها نحن فى باب «وجوه لا تغيب» نفرد له هذا الاستعراض بعد 95 عامًا على مولده و39 عامًا على وفاته..
أصبح «صلاح جاهين» روح شعب كامل وتنقله مع والده القاضى من القاهرة أو حى شبرا الذى ولد فيه إلى المحافظات الصعيد والدلتا جعله يعيش خريطة مصر بعمره الذى عاشه – 56 – لكنه كان شاعرًا عمره يتجاوز 7 آلاف سنة فقد نبض قلبه بحارات وأزقة مدن مصر وشوارع المحروسة.. كان مشبعًا بالمعرفة والثقافة وناطح السحاب بكلماته.. ورسم بها آمالاً طوالاً لأمتنا العربية وكل ناطق العربية أو تعلمها.. حفرت كلماته فى الوجدان شجون شعبنا ونسجت معه أحلام وآمال عريضة لم يحزنها إلا نكسة مفاجئة بعد «صورة» و«قلنا هانبنى السد».. وعندما رسم أفاض المتعة وأمتع عندما كتب الشعر وبرباعياته رسم فلسفة حملت اسمه.. ومع ارتدائه عباءة المسرح تمثيلاً وكتابة رسم فلسفة حملت اسمه وفى السيناريو اعتبره المتيمون فلتة.. وأطلقوا عليه جبرتى المحروسة.. وفى الفوازين كان لغز الثقافة المميز وضمير الوطن الذى افتخر به وأعطاه صورة.. صورة ومعه غنى الشعب أغنيته الخالدة التى غناها «عندليب» الوطن «كلنا كدا عايزين صورة» كانت مصر عنده كل شىء.. وكفى تقول «عجبي» . وعزفت الربابة اسمه وغنت معه مصر.. وبين والده المستشار وجده المناضل الثائر.. تأثر بالحى الشعبى ولا ينسى أنه الولد الذى قالت عنه أنه ولد ميتًا، لأنه لم يصرخ عند ولادته.. هذا العبقرى انتقل من المدرسة الأمريكية ورافق الوالد.. نال الابتدائية من أسيوط ومدرسة الناصرية الابتدائية بالقاهرة ومدرسة شبين الكوم ونال الكفاءة من أسيوط عام 1946.
نال الثقافة من المنصورة والتوجيهية من طنطا.. ترك الحقوق إلى الفنون الجميلة بعد الثالثة الدراسية تعلق بالرسم وكان والده قد تولى منصب رئيس محكمة المنصورة.
حقيقة كان صوته وأشعاره فى ظرف تاريخى مع الثورة بعد 1952 وعبر بأشعاره مرحلة التحولات مروراً بحرب السويس 56 والوحدة 58 وقوانين يوليو التأميم 61 والانفصال عام 62 وبناء السد العالى وتسلل مع كلماته إلى قلوب الملايين، فقد أدى دورًا وطنيًا بجدارة فقد كانت جيناته الوطنية ووصل إلى السلام الوطنى..
النشأة والميلاد
فى يوم الخميس 25 من ديسمبر 1930 فى شارع جميل باشا وفى منزل أحمد حلمى رئيس تحرير جريدة الحزب الوطنى اللواء.. استقبل بهجت أفندى أحمد حلمى مولوده الأول من زوجته السيدة أمينة حسن وفى غرفة زينت جدارها صورة كبيرة لزعيم الحرب مصطفى كامل باشا.. وفجأة يسمع بهجت أفندى شهقة «الداية» المولدة عندما شاهدت جسد الجنين يشوبه لون أزرق.. وظنت أنه ولد ميتًا.. فوضعته فى «غربال» .. ولفته أسفل السرير.. وهى صامتة والأم تتألم.. وبعد فترة من الصمت وعدم الكلام ولم تسمع «الصرخة» المعهودة لحظة الولادة لكنها – أى «الداية» – مدت يدها لتجد أن الوليد يتحرك وبدأ فى البكاء معلنة «ولد».. وكانت المشكلة فى اختيار الاسم واختار الجد أحمد حلمى اسم «صلاح» تيمنًا بالقائد صلاح الدين الأيوبى باسم محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمى «صلاح جاهين».
ومع الجد الثائر الصحفى أحمد حلمى الثائر والمناضل، وكان الوالد «الأب» القاضى الحازم ومع جد ثائر وأب حازم بدأت النشأة فى «شبرا» الذى شهد ميلاد هذا العبقرى مع عباقرة آخرين بينهم بليغ حمدى وميلاد حنا وداليدا.. وبين أيدى الحفيد عاش ومع مهنة الوالد المتنقل بين المحافظات تجول معه ليرى الريف على حقيقته وطبيعته.. وكان الأب يؤهله ليكون امتداداً له فى القضاء وكان له ثلاث أخوات بهيجة، وجدان، سامية.. لكن الطفل كان له اتجاه آخر.
كان للأسرة «الديك» العائلة المحظوظ بتدليل شقيقاته وتفرغت أمه التى تعمل بالتدريس لرعاية البنات و«ديك البرابر»..
وفى رحلة الوالد وصل إلى سن 18 وانتقل الوالد من شبرا إلى الهرم وفى محطة «سباتس» كان قد وصل إلى مجالس الأدباء والشعراء وعرف طريقه إلى مقاهى الثقافة والفكر.. ومع انتقال الأسرة إلى المنصورة بدأ لصلاح مرسمه الخاص ومع انتقال والده إلى طنطا عاد إلى منزل جده أحمد حلمى فى شبرا وكانت حياته شغوفة بالرسم وكان التحاقه بالفنون الجميلة صعباً لأن والده يريده فى الحقوق.. وبدأت بواكير موهبته وتفجرت على يد أستاذ الرسم وهرب من دراسة القانون.. وترك المنزل إلى وكالة الغورى ليمارس هوايته.. فقد خطا حفيد الثائر رئيس تحرير اللواد أحمد حلمى أحد تلاميذ مصطفى كامل وزميله فى ثورته ولم يكن غريبًا مع ثورة يوليو أن يتعلق صلاح جاهين .
والله زمان يا سلاحى
لم يتخيل أن النشيد الذى ألفه «والله زمان يا سلاحي» انه سيكون النشيد الوطنى ويردده التلاميذ فى الابتدائى مع طابور الصباح، وظل حتى تم اختيار نشيد «بلادى بلادي» لسيد درويش.
بدأ صلاح جاهين حياته العملية فى جريدة بنت النيل ثم جريدة التحرير وفى هذه الفترة قبل العدوان الثلاثى عام 1956 بعام تقريبًا أصدر أول دواوينه «كلمة سلام» وكان أنغام سبتمبرية 1984 آخر دواوينه فى 21 أبريل 1986 واتجه إلى الصحافة لتكون المنبر لموهبته.
وخلال عمله بمجلة روزاليوسف وشاهد الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين أعماله وأعجب بها واستدعاه وخصص له صفحة أسبوعية يبث من خلالها ابداعه لأول مرة ومنحه بهاء الدين الفرصة الذهبية الكبيرة عندما قرر اصدار مجلة جديدة للشباب باسم «صباح الخير» التى صدر أول أعدادها فى 13 يناير 1956 قبل 9 أشهر من العدوان الثلاثى على مصر بعد تأميم القناة فى يوليو 1959.
ومع ظهور صباح الخير كانت رسوماته الجريئة أحد علاماتها البارزة بتوقيع «صلاح جاهين» ودخل فى نفس الوقت مع الفنانين والشعراء.. وبدأت هذه النقلة مع بهاء الدين تتفتح أمامه الفرصة تلو الفرصة تخاطب ابداعاته.. وجاء حديث معه كله عنه فى رائعته «الليلة الكبيرة» التى أخرجها صلاح السقا.
رباعياته
وفى عام 1959 كتب أربعة أبيات ذات صباح بينما كان فى طريقه فى شارع قصر العينى إلى روزاليوسف.. وعندما سمعها بهاء الدين وبحسه الصحفى طلب منه أربعة أبيات أسبوعياً والتى كتب منها 161 قصيدة نشرتها الهيئة العامة للكتاب واعتبرها كبار النقاد المصريين والعرب أفضل ما كتب الشاعر الفيلسوف جاهين.. ومن هنا يرى الأدباء ورجال الفكر والصحافة أن الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين صنع الفارق معه.
نبوءته لوالده
برغم أنه سلك طريقًا غير طريق والده فى الصحافة ليظل هذا الموهوب «أيقونة المبدعين» فقد قال لوالده الذى أخذ يعمل على ترغيبه لدراسة القانون وسيكون مستقبله يانعًا عندما يعرفون أنه ابن سعادة القاضى والمستشار رئيس المحكمة فقال له: سيأتى يوم يعرفون بهجت أحمد حلمى ابن الثائر بابنه صلاح.. ولم يدر المستشار الراحل بهجت انه عندما عين رئيسًا لمحكمة الاستئناف واثناء أداء اليمين الدستورية أمام الرئيس جمال عبدالناصر.. وعرف عبد الناصر أن رئيس المحكمة والد «صلاح جاهين».. وابتسم عبدالناصر وعاد للسلام على القاضى المستشار بهجت حلمى مصافحًا إياه بحرارة وأبدى له إعجابه بابنه.. فى هذه اللحظة تذكر القاضى والد الفنان الكاتب الصحفى والرسام والممثل كلمات ابنه السابق فى لحظة «التمرد على دراسة الحقوق» وشعر بالفخر انه والده هذا المبدع.. وعندما عاد إلى المنزل أمام زوجته وابنه صلاح «المشاكس» و«المشاغب» فى نظره.. وقال: له وهو يخاطبه «يا ابن الايه أصبحت أنا أعرف بك».
برغم اختلاف وجهات النظر بين الشاب صلاح وتمرده الذى ورثه عن جده على الدراسة التى ستؤهله لكى يكون قاضيًا وفى الرحلة العملية ظل يرسم الكاريكاتير فى صباح الخير حتى وصل إلى رئيس التحرير..
الانتقال إلى الأهرام
وفى فرصة أخرى أطل على الجماهير بشكل يومى عندما عمل مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل حينما كان رئيسًا لتحرير الأهرام ولأول مرة تعرف الأهرام الرسم الكاريكاتيرى يوميًا على صفحاتها وظل بالأهرام يرسم يوميًا حتى استدعاه الأستاذ أحمد بهاء مرة أخرى إلى صباح الخير ثم عاد للأهرام مرة أخرى وكانت الصفحة الخامسة هى عنوان رسوماته. ووجد جاهين رسوماته بجوار الكبار محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ..
ومع الصحافة تفجرت كتلة الإبداع والفنون عندما أنتج للسينما «أميرة حبى أنا» و«خلى بالك من زوزو» و«عودة الابن الضال» و«المتوحشة» و«شفيقة ومتولى» وكان ممثلاً فى «اللص والكلاب» و«المماليك « و«الحب الإلهى».
.. وفى وهج الثورة التى انغمس فيها وكتب لها بقلبه أبيات لاتزال فى صوت الوطنية الحى ولقائه مع العندليب أمتع الجماهير فى «الأحضان» و»أحلف بسماها».. وأغانيه للحب والربيع والأم والوطن.. وتعاون مع صباح «أنا هنا يابن الحلال» ومع فايزة أحمد «بان عليا حبه» وغيرها.
صلاح وأسرته
بينما كان يقف صلاح جاهين على سلالم دار الهلال ليتسلم طبعة جريدة التحرير مرت عليه شابة لا يعرفها فسأل هبة عنايت عنها وأن يفاتحها فى الزواج منها وكانت أيضاً رسامة تعمل فى دار الهلال وتم بالفعل الزواج عام 55 واستمرت الحياة تسير بينهما 12 عاماً.. بعدها تزوج السيدة منى قطان وظل الاحترام والتقدير بين صلاح جاهين وزوجته الأولى وهو ما جعل المياه تعود إلى مجاريها وبينهما ابنه الأكبر الشاعر والكاتب بهاء جاهين الذى سماه تيمناً بالكاتب الكبير أحمد بهاء الدين وأنجب ابنته منها التى سماها على اسم والدته أمينة.
والكاتب بهاء صلاح جاهين يؤكد أن والده تأثر بجده أحمد حلمى.
يقول بهاء جاهين أثناء جلوسه فى البيت كان هناك شخص يأتى يومياً يتسلم الرسوم الكاريكاتورية وهو الذى ألف فيه قصيدة غنتها سعاد حسنى باسم «الرجل الغامض».
زواجه من منى قطان
تقول سامية صلاح جاهين إن الأقدار لعبت دورها فى زواجه حيث جاءت إلى القاهرة السيدة جاكلين خورى الفتاة الفلسطينية مع ابنتها منى وكان لديها رغبة فى الدخول إلى عالم الصحافة من بوابة الأهرام وكانت تتردد عليها ابنتها منى قطان.
وكانت غرفة صلاح جاهين من أجمل غرف المبنى القديم ممتلئة دائماً بالأصدقاء وكانت قد قرأت رباعياته التى أهداها لها وتزوجا عام 67 وأنجب منها ابنته سامية.. وتقول النكسة غيرت فيه الكتير وهو نفسه يعتبر سنوات الحزن 1967-1963.
تقول سامية اقتربت منه لأنه كان يعمل من المنزل فقد كان معى معظم وقته وقد توفى وعمرها ست سنوات وتتحدث عن حنانه الطاغى وتقول قرأت أشعار والدى كى أرد على أسئلة المحبين له ماذا تعرفى عن أعماله وساعدنى أخى بهاء وزوج أختى أمين حداد وشاركت فى أمسيات كثيرة نتحدث عنه وعن فؤاد حداد.. وتقول أبنائى بدأوا بالوعى وعمرهم صغير وتقول سامية تتذكر كلماته بصوت سيد مكاوى:
محمد بغدادى وصلاح
الصحفى محمد بغدادى كتب أول كتاب عنه وكان آخر من تحدث معه وكان عام 1980 طالب لويس جريس أن تحتفل بعيد ميلاد جاهين وذهبت له مع رؤوف عياد وكانت مفاجأة له وجلسنا معه 4 ساعات ونشرناه خمسون عاماً مع أشعار صلاح جاهين وناقشناه فيما كتبه عقب النكسة «عندما حدثت النكسة سقطت فى بئر أحزان.
أحمد الحداد
أحمد الحداد ثمرة علاقة صداقة وود ومصاهرة بين الشاعر فؤاد حداد وصلاح جاهين وصاغ تجربة متأثراً.. وتأثر بمسيرتهما.
يقول أنا محظوظ بعلاقتى بالاثنين وقد أحدثا نقلة فى تاريخ الشعر وبزواج والدى بأمينة جاهين توثقت العلاقات والغيرة لم تلوث علاقاتهما.
وحول تراث جاهين يقول الفنان محمد عيلة إن جاهين يجسد مسيرة مهمة مع فن الكاريكارتير وأحدث نقلة مهمة فى أعماله التى قدمها.
جرح يونيو
كل المحيطين به فى فترة التوهج فى الستينيات يؤكدون أن صدمة 5 يونيو كان لها أثر كبير عليه، فقد كان الرجل قد كتب أشعاره وكلماته وآماله وإحلامه مع المد الثورى واستطاعت قامته معها فخراً وافتخاراً وكان الجميع يردد.
رحلته كان عمرها 56 عاماً على الورق، لكن عمق عبقريتها 7 آلاف عام بعمر حضارة وطن نجح فيه جاهين فى خلط الثقافة بالفلكلور ورموزه فى بناء السد والتصنيع والزراعة وردد الملايين أغانيه صاحب زمان يا سلاح وثوار ولآخر مدى وصار جزء لا يتجزأ من الموروث الشعبى المصرى والفنى والثقافى، وفجأة نهض يوم الاثنين 5 يونيو على شىء آخر غير متوقع ودخل فى محيط الذكريات الكئيبة قبل دخوله الصحافة ويوسف إدريس الذى أقنعه بدخوله التمثيل عندما تحولت روايته إلى فيلم «لا وقت للحب» مع فاتن حمامة ورشدى أباظة، وقام بدور «بدير».
تذكر كلماته «يا واد يا تقيل، بانو بانو» وأفلامه الثمانية ومنها «اللص والكلاب، شهيد الحب الإلهى، خلى بالك من زوزو» وصديقه حسين الإمام والفنانة التى أحبته وأحبت كلماته سعاد حسنى، كل هذا كان يعيش داخله بعد النكسة ولازمه حتى وفاته فى 21 ابريل 1986، وبجواره فى صومعته بقايا ما كتب «زهرة موسكو، كلمة سلام، موال القنال، رباعيات الطين والقمر، قصاقيص ورق».
الشاعر والمثقف الذى كان مرجعية وطن مات مرتين مع النكسة ويوم وفاة رمز حلمه جمال عبدالناصر، وظل أسير هذه المواقف، صحيح كان يخرج منها بأعماله، لكنه كان يعود مرة ثانية باعتبار أن الزمن غير الزمان، رغم ثبات المكان، تذكر الوشايات التى حيكت حوله وتعرض لقوائم الاعتقال ورفع عبدالناصر اسمه أكثر من مرة عندما وشوا ضده أنه يقصد ناصر فى كتاباته.
كان جاهين احد حرافيش اديب نوبل نجيب محفوظ والذى كتب عنه رواية «قتشمر» عاش جاهين أسير قصائد الحلم ومنها «الدرس انتهى لموا الكراريس» التى نظمها بعد ضرب مدرسة بحر البقر بالشرقية فى جريمة مازالت اسرائيل تمارسها، قتل الأطفال بعد 55 عاماً من جريمة القرية المصرية فى غزة اليوم، عاش بين ذكرياته السنوات الأخيرة من طالب فاشل فى الرسم إلى أهم رسام فى عالمنا العربى وأيامه بين عبدالناصر والعندليب، ومع المرض دخل فى دوامة إنقاص الوزن التى أرقته وانخفض بالقرية من 125 إلى 70 كيلو جراماً.
وداعاً جاهين
تعرض صلاح جاهين الذى نال وسام الدولة من الدرجة الأولى فى العلوم والفنون من الرئيس جمال عبدالناصر للمرض ومع علة القلب سافر إلى لندن كلينيك عام 85 وقبلها عزم على إنقاص وزنه ومع الأدوية الكثيرة التى كان يتناولها وكان لها تأثير على صحته عموماً وعاد إلى مصر، لكن مضاعفات القلب لم تنتهى مع الأدوية، وفى 15 ابريل 1986 بعد عام من عودته من لندن دخل مستشفى الصفا فى غيبوبته الأخيرة وتوفى وتمت الصلاة على الجثمان فى مسجد عمر مكرم، حيث أقيم العزاء فى نفس اليوم مودعاً عشاقه ومحبيه وكأنه كان يتنبأ بوفاته عبر حديث بجريدة «الجمهورية» أجرته الزميلة سمية عبدالرازق مدير التحرير ومعها الراحلة زينات إبراهيم الكاتبة الصحفية بـ «الجمهورية»، وقال فيه وهو ربما آخر أحاديثه: أنا من أهل الكهف، وقال أيضا فى الحوار الذى نشر مايو 1985: أغانى زمان لن تعود إلا إذا خرج الأموات من القبور، وأن أحب الأغانى إلى قلبى «إحنا الشعب».
بوفاة صلاة جاهين فى 21 ابريل 1986، ودعت الثقافة العربية والصحافة مثقفاً شاملاً عاشت مع كلماته عقود ولكنها باقية يرددها الناس لأنها كانت نبض الشارع ولسان المواطن وليس رص أبيات من الشعر تطير بعد إلقائها، كان باحثاً وغائصاً فى الانتماء وتعميق الهوية وهو ما تحتاجه اليوم فى رفع الوعى وإظهار مشاريعنا العظيمة والتغنى بها ونقلها إلى الأجيال.
مات جاهين جسدا، لكن بقيت أعماله تزين أرفف المكتبات العربية وبقيت فى أغانى العندليب وأم كلثوم وألحان كمال الطويل، انه إرث حضارى ورمزى ثقافى افتخر به الجميع، أنه صلاح جاهين.