محطات كثيرة نقف عندها فى حياة وسيرة الكاتب الصحفى والروائى والأديب وكاتب السيناريو وشاعر الرومانسية والملوك صالح جودت.. كان عبقريًا وموهوبًا.. فحياته من المولد فى 12/12/1912 قبل الحرب العالمية الأولى بعامين وقبل وعد بلفور المشئوم بـ 5 أعوام تجعلك متسمرًا أمام كل خطوة فيها.. عبر مشواره من الزقازيق حيث ولد إلى مصر الجديدة التى التحق بإحدى مدارس اللغات بها وعمره دون الخامسة إلى المنصورة مع والده المهندس الزراعى حيث عاش وحصل فى المنصورة على الثانوية العامة.. وابتسم القدر للشاعر الصغير سنًا ليلتقى فيها برفيق دربه الشاعر عبدالعاطى الهمشرى وفيها تعرف على صاحب الأطلال الطبيب المتيم بأم كلثوم ابن شبرا إبراهيم ناجى وأيضًا تعرف على مهندس الاشغال الشاعر المعروف على محمود طه شاعر الجندول.. مشوار حياته مملوء بالإنتاج الأدبى الغزير وتعكس تجربة جيل النصف الأول من القرن الماضى بين حربين عالميتين الأولى والثانية وانتهاء بعصبة الأمم وتأسيس الأمم المتحدة فى أربعينيات القرن الماضي.. وأيضًا تنفيذ الوعد السيئ بإنشاء دولة إسرائيل.. فى هذه الأجواء ولد الشاعر الموهوب صالح جودت الذى التحق بدراسة الاقتصاد بكلية التجارة جامعة فؤاد رغم ميوله الأدبية وحصل على البكالوريوس عام 37 وعلى الماجستير فى العلوم السياسية.. وخلالها بدأت رحلته فى أول مقال كتبه دفاعًا عن أم كلثوم فى مطبوعة الصباح لصاحبها مصطفى القشاش وبسببها ابتسمت له الحياة بلقاء سيدة الغناء أم كلثوم «كوكب الشرق» وحصل على أول عقد عمل بـ 10 جنيهات..
موهبة صالح الشعرية كانت مبكرة يبحث معها فى بساتين الشعر عن رواده ويلتقى بهم فمع صاحب الاطلال إبراهيم ناجى الذى كان بمثابة باعث الإلهام الشعرى لصالح وكان عمره 15 عامًا فى ثانوية المنصورة ومعه الهمشرى 19 عامًا بينما أكبرهم ناجى 1898 – 1953 وعلى محمود «شاعر الجندول» 1902 – 1949.. ونبوغه المبكر كان وراء تشكيل ما أطلق عليه «صخرة الملتقي» فى المنصورة فى نفس الوقت الذى كان أبناء القاهرة يشكلون جماعة الأدب الأشهر «أبوللو» وفى الملتقى أو صخرة الملتقى على جزيرة الرمال المحاطة بنيل مصر استوحى الأربعة وبينهم صالح جودت التبارى فى قصائد الشعر وسط فحول شعراء العربية الذين تزخر بهم مصر وأميرهم شوقي.
ونبغ صالح فى هذا الجو متسلحاً ببلاغة الكلمة لكن الوظيفة أخذته فى رحلة بدأت بالعمل مسئول للدعاية فى بنك مصر.. ووصف من الشعراء بعمر ابن أبى ربيعة باعتبار صالح جودت فى هذه الفترة حمل باقتدار شاعر الرومانسية أو «الفستق المقشر» وهنا تحضرنا قصة الشاعر القرشى عمر بن أبى ربيعة وأشهر من تغنى شعرًا بالمرأة الذى أرسل عبدالملك بن مروان الخليفة الأموى إلى الحجاج بن يوسف الثقفى رسالة، بينما فاطمة بنت عبدالملك قادمة إلى مكة المكرمة بأن ينصح عمر بن أبى ربيعة ألا يكتب شعرًا فى ابنته وسكت بن أبى ربيعة أمام ابنة الخليفة الأموى عبدالملك رغم أن المحيطين بها سربوا أنها نفسها لم تمانع أن يقول فيها بن أبى ربيعة أبياتًا من شعره الذى كان ذائع الصيت.. ومن هنا كثير من شعراء النصف الأول من القرن الماضى يربطون بين جودت وابن أبى ربيعة.. وعندما سئل جودت فى أحد المقابلات ما الفرق بينك وبين صاحب الأطلال ابراهيم ناجى فقال فى الحب رامى يحب الحرمان ويركز إلهامه على حبيبة واحدة.. أما أنا :
حمراء أو صفراء أن كريمها
كالعنبر كل مليحة بمذاق..
من هنا كثيرون يرون فى صالح جودت صورة حديثة من شاعر الغزل عمر بن أبى ربيعة
بين شاعر الغزل والأطلال والجندول
الاختلاف على اسمه
.. ونعود مرة أخرى بعد هذا السردية عن كاتبنا وشاعرنا الكبير صالح جودت إلى البداية عندما ولد اختلف والده مع والدته التى كانت تريد تسميته عبدالرحمن تيمنًا بوالدها بينما الوالد كان يريد أن يسميه صالح تيمنًا بشقيقه «صالح».. وفى رحلة الحياة الأدبية بزع سريعًا ليطل كاتب وشاعر مملوء بالنبوغ والنضج.. فمن «الصباح» الجريدة مع مصطفى القشاش وهو الصحفى من منازلهم نجح بأول عقد له فى الكتابة بـ 10 جنيهات.
الحرب العالمية والإذاعة
وجاء الحظ معه عندما اختاره عبدالحميد الحديدى للعمل معدًا للنشرة فى أيام الحرب العالمية الثانية ومن الإذاعة عمل فى أكثر من موقع ومنها مراقب للبرامج الثقافية ورئيسًا لمجلة الإذاعة قبل أن يعمل بالأهرام ويختاره الكاتب الكبير مصطفى أمين للكتابة فى جريدة الأخبار وبسرعة كبيرة استطاع اسم صالح جودت أن يتصدر الأعمال الأدبية والشعرية والأفلام ونال جائزة الدولة التشجيعية عام 1959 وحصل على أوسمة لعدد من الدول العربية كلبنان والأردن والمغرب وكان مقرراً للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للآداب التى تولاها الأديب الكبير عباس محمود العقاد وعزيز أباظة.. ويحسب له أنه أحد مؤسسى إذاعة صوت العرب فيما ردد البعض أنه أحد الذين اختاروا اسمها..
أنيس منصور وجودت فى صنعاء
المفارقة أن الكاتب الكبير أنيس منصور جمعه مع الشاعر والكاتب صالح كمال جودت مهرجان شعرى فى اليمن وكان الكاتب أنيس يسمعه لأول مرة وكتب عنه مقالاً مطولاً يصف فيه شعره والقائه لقصائده وقال أنيس منصور تأخرت فى سماعه وشعرت بالخجل وأنا أسمع إلقاءه وصوته الرقيق وأداءه الرائع الناعم الذكي.. ومن صنعاء إلى تعز استمعت إليه وقال: كان يمتلك فن الإلقاء العذب الذى يدخل القلب.. وكلمات تضرب الآذان وهذا ما عرف عن صالح جودت فأبيات شعره تمهد الطريق إلى موسيقى ألفاظه وقصائده..
«ابق معنا يا حبيب الشعب»
ولعل ما لفت الانتباه بعد نكسة 1967 وخروج الشعب ليطالب الرئيس عبدالناصر بعدم التنحى كتب متفاعلاً مع حركة الجماهير الهادرة فى يومى 9 و10 يونيو وألقى قصيدته «ابق معنا يا حبيب الشعب» ورددها الجماهير.
ابق معنا يا حبيب الشعب
قم واسعمها من أْعماقى
فإن الشعب
ابق فأنت السد الواقى
لـمُنى الشعب
ابق فأنت الأمل الباقى لغد الشعب
أنت الخير وأنت النور
أنت الصبر على المقدور
أنت الناصر والمنصور
ابق فأنت حبيب الشعب
دواوين خالدة
تصدرت مقالاته العديد من المطبوعات وخاصة مطبوعات دار الهلال جميعها وفى هذه الدار العريقة تشم رائحة أساطير الشعراء والأدباء منذ إنشائها إلى اليوم ويظل اسم صالح جودت أحد الأسماء التى ساهمت فى جعلها منارة للأدب والسياسة والفن والشعر والتاريخ.. وعندما تقلب دواوين جودت التى تركها للمكتبة العربية تجد نفسك تسبح وسط كلمات مضيئة وقصائد وطنية ورومانسية وسياسية رفيعة المستوى ما بين بلابل الشرق وملوك وصعاليك وليالى الهرم وأغنيات النيل وألحان مصرية، إضافة إلى الثلاثية المقدسة رائعة أم كلثوم بألحان المبدع رياض السنباطى والله والنيل والحب وغيرها.. وأهمية نجاح صالح جودت الكاتب والأديب والشاعر والروائى وكاتب القصة انه كتب اسمه وسط عمالقة الصحافة والفنون والاداب فى مرحلة مهمة وكان جزءاً مميزاً بين قمم القوى الناعمة التى نجحنا فى بناء مصر بقواها المختلفة الاقتصادية والناعمة.
مواقف وطنية
فى عام 1956 وأثناء العدوان الثلاثى على مصر لم يقف صالح جودت عند الشعر أو العمل الصحفى بل انخرط فى مركز التدريب فى نادى المعلمين بالجزيرة لكى يكون أحد جنود الدفاع عن الوطن عمليًا ومن داخل القاهرة ضد العدوان.. فقد كان كاتبًا مصرياً يحمل مشاعر رفيعة ومعروفًا بلسانه الرقيق.. على المستوى الإنسانى من واقع كلمات الرثاء التى كتبت عنه يوم وفاته بعد عودته من لندن من رحلة علاجية بعد مرض عضال أصابه فى «المريء» وهو الأديب الذى كان يعشق التجوال.. وبالرغم من أنه ألقى قصائده للملك عبدالعزيز والملك حسين والملك فؤاد والملك فاروق إلا أن قصيدته «ابق معنا يا حبيب الشعب» كانت أحد الروائع الوطنية التى جاءت وسط آلام النكسة وآمال التخلص من آثار العدوان الأكثر صيتًا فى هذه المرحلة المهمة من تاريخ الوطن عندما ينسى الجميع خلافاتهم ولا صوت يعلو على صوت الوطن فهذا هو صالح جودت.
المعركة الأخيرة التى خسرها
عندما علم جودت بمرضه العضال خاض معركته التى لم ينتصر فيها وكان المرض قد أصابه عام 1974 بينما كسينجر وزير الخارجية الأمريكى يقوم بمكوكيته فى المنطقة.. وكان جودت ينتظر ما ستخرج منه مكوكية الوزير الأمريكى للخارجية الأشهر وفى صراع المرض سافر إلى لندن فى رحلته الأخيرة والقلم فى يده وبين أصابعه إلى آخر النهاية.. وعندما عاد من رحلته العلاجية واستقبله محبوه وفارق الحياة بعد أيام من عودته إذا كان صالح كمال جودت قد غاب جسدًا فقد بقيت أعماله الأدبية والشعرية تزين مكتبتنا العربية من المحيط إلى الخليج فقد كان نجم حقبة ما بين الحربين وما بعدهما فى الحرب الباردة وحتى انتصار مصر فى معركة تحرير سيناء أكتوبر 1973 وهو الحلم الذى كان يراوده أن تتحرر سيناء وتعود قناة السويس إلى مصر شرياناً مائياً يربط الشرق بالغرب والأهم للعالم كله.. ومن يقلب صفحات مجلات دار الهلال جميعها فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضى سيجد روائع وابداعات صالح جودت.. ومن نبش فى شرائط الإذاعة المصرية ومكتبة التليفزيون المصرى سيجد أعماله الخالدة إذاعيًا ومرئيًا ومكتوبًا تعلن للآذان والعيون أن صالح جودت مَرَّ من هنا ومن هناك قبل أن يتوفى فى 22 يونيو 1976.. فعلاً تظل السيرة أطول من العمر فما تركه صالح جودت من أشعار الرومانسية تتغنى بها الأجيال وترددها من جيل إلى جيل.
قالوا عنه
أنيس منصور
الكاتب الكبير أنيس منصور أطلق على صالح جودت اسم شاعر الكون أو الشاعر الفلكى لأنه يعمل فى دار «الهلال» التى تصدر عن مجلة الكواكب وممكن أن نجد فى قصائده عشرات الأبيات فى وصف الهلال والقمر والنجوم والتغزل فى الكرة الأرضية والمريخ والكواكب الأخري.
مرسى الشافعى
ماذا أقول والقلم يرتجف مع أصابعى وأنا أحاول هنا أن أكتب سطورًا عن الصديق الحبيب الذى فقدناه منذ أيام «صالح جودت» ماذا أقول وقد كان صالح يعيش بيننا فى دار الهلال.. شاعرًا ملهمًا.. صحفيًا حساسًا.. كاتبًا مرموقًا.. لقد كان من أحسن من كتبوا من اليمين إلى الشمال؟
كمال النجمى
يقول كمال النجمى إن الخطوات القصار التى مشيناها منذ أيام فى ساحة جامع عمر مكرم كانت من أصعب الخطى وأشدها ايلامًا.
صالح جودت من أصدق أصدقاء قراء الكوكب وقراء كل مجلة أسبوعية أو شهرية من مجلات دار الهلال فقد كتب فيهما جميعًا زمنًا طويلاً وكان رئيسًا لتحرير بعضها.
بعض الوظائف التى عمل بها:
مدير الدعاية فى بنك مصر.. محرر بالأهرام.. رئيس تحرير مجلة الإذاعة المصرية ومجلة كايرو لوكنج.. مراقب البرامج الثقافية بالإذاعة.. محرر بمجلة المصور.. رئيس تحرير مجلة الاثنين
وداع إعلامى حاشد
وتم وداعه بحضور إعلامى كبير لصحفى وأديب وشاعر يستحق له مسيرة خالدة فى تاريخ الأدب والصحافة ، فقد مات صالح جودت الجسد
وبقى صالح جودت الشاعر والإنسان..
قصيدة الثلاثية المقدسة
رحاب الهدى يا منار الضياء
سمعتك فى ساعة من صفاء
تقول أنا البيت ظل الإله
وركن الخليل أبى الأنبياء
أنا البيت قبلتكم للصلاة
أنا البيت كعبتكم للرجاء
فضموا الصفوف
وولوا الوجوه
إلى مشرق النور عند الدعاء
وسيروا إلى هدف واحد
وقوموا إلى دعوة للبناء
يزكى بها الله إيمانكم
ويرفع هاماتكم للسماء
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
يا عطاء الروح من عند النبي
وعبيرا من ثنايا يثرب
يا حديث الحرم الطهر الذي
يطلع النور به فى اللهب
قم وبشر بالمساواة التي
الفت بين قلوب العرب
والإخاء الحق والحب الذي
وحد الخطو لسير الموكب
والجهاد المؤمن الحر الذي
وصل الفتح به للمغرب
أمة علمها حب السماء
كيف تبنى ثم تعلو بالبناء
فمضت ترفل فى وحدتها
وتباهى فى طريق الكبرياء
بيد توسع فى أرزاقها
ويد تدفع كيد الأشقياء
سادت الأيام لما آمنت
أن بالإيمان يسمو الأقوياء
فإذا استشهد منهم بطل
كانت الجنة وعد الشهداء
من مهبط الإسراء فى المسجد
من حرم القدس الطهور الندي
أسمع فى ركن الأسى مريما
تهتف بالنجدة للسيد
وأشهد الأعداء قد احرقوا
ركنًا مشت فيه خطى أحمد
وأبصر الأحجار محزونةً
تقول واقدساه يا معتدي
لا والضحى والليل أما سجي
وكل سيار به نهتدي
لن يطلع الفجر على ظالم
مستغرق فى حقده الأسود
سترجع الأرض إلى أهلها
محفوفة بالمجد والسؤدد
والمسجد الأقصى إلى ربه
مزدهيًا بالركع السجود
ستشرق الشمس على أمة
لغير وجه الله لن تسجد