تنص المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة على التزامات متبادلة ومتزامنة بين طرفى الاتفاق، وهما المقاومة الفلسطينية وإسرائيل فيما يتعلق بتبادل الأسرى والمحتجزين فى توقيتات محددة، وبأعداد محددة من كل جانب.
وهذه الالتزامات هى ما توصل إليه الوسطاء عبر مفاوضات مطولة وشاقة بين الطرفين، وارتضاها الطرفان ووقعا عليها فى الاتفاق وأصبح الاتفاق وتنفيذه ملزما لهما وبضمان الوسطاء.
ولا أظن أن الاتفاق أشار إلى مراسم محددة لعمليات التبادل من جانب هذا الطرف أو ذاك، سواء بالموافقة على مظاهر محددة تصاحب عملية التبادل، أو بمنع مظاهر أخري، بحيث يمكن لأى طرف أن يتخذ من نقض هذه المظاهر ذريعة لوقف عملية التبادل، أو انتهاك ما هو منصوص عليه فى الاتفاق متعلقا بالمواقيت أو الأعداد والتحايل عليها.
لكن لأن عقيدة رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو لا تعرف شيئا اسمه احترام ما يوقعه من اتفاقات أو مواثيق، بل هو يوقعها بنية انتهاكها وخرقها عند أى فرصة تلوح له، فإن لم تلح له الفرصة بادر باختلاقها.
وأحدث دليل على ذلك، إن احتاج ذلك إلى دليل أصلا، هو ما حدث هذا الأسبوع عند تنفيذ الدفعة السابعة من تبادل الأسرى والمحتجزين.
فبعد أن سلمت المقاومة الفلسطينية يوم السبت الماضى لإسرائيل العدد الذى التزمت به من المحتجزين لديها، وانتظرت أن تتسلم من إسرائيل العدد المقابل لهم من الأسرى الفلسطينيين وفق ما نص عليه الاتفاق وهو ستمائة واثنين من الأسري، فوجئت بنتنياهو يأمر بوقف تسليمهم.
لماذا؟!
لأن الطريقة التى سلمت بها المقاومة الفلسطينية المحتجزين لديها، فيها إهانة لإسرائيل، على حد قول نتنياهو!!
هل سلمت عددا أقل مما ألزمها الاتفاق به؟! لا
هل سلمت بين هذا العدد أسماء غير الأسماء المطلوبة من إسرائيل فى هذه الدفعة؟! لا.
هل انتهكت حقوق أو حرمات أى منهم عند عملية التسليم؟! أيضا.. لا.
لكن نتنياهو يرى أن المقاومة الفلسطينية تتعمد استغلال عملية التبادل فى كل دفعة لإذلاله ولإعطاء إشارات تكسر كبرياءه الشخصى وتدمر مستقبله السياسي، وتثبت لقومه أنه فشل فى الوفاء بما وعدهم به من القضاء عليها، واستعادة جميع المحتجزين لديها بالقوة.
حسنا.. لو كان هذا هو السبب فى تجميد عملية تسليم الدفعة السابعة من الأسرى الفلسطينيين لديه، وكان يتصرف بحسن نية وبرغبة حقيقية فى الاستمرار فى الالتزام بالاتفاق، لكان بإمكانه أن يطلب من الوسطاء التدخل لدى المقاومة الفلسطينية، والحصول منها على تعهد بعدم تكرار هذه الإشارات التى تحرق قلبه ويواصل تنفيذ عملية التبادل وتسليم أسرى الدفعة المجمدة لديه والتى حصل مقدما على ما يقابلها من محتجزين.
لكن ذلك لم يحدث بالضبط.
الذى حدث هو التالي:
١- حصل نتنياهو على تضامن الرئيس الأمريكى معه فى قراره تجميد تسليم هذه الدفعة.
٢- طلب من الوسطاء إبلاغ المقاومة الفلسطينية استعداده لتسليم هذه الدفعة ولكن على مرحلتين تتضمن كل مرحلة نصف عدد الدفعة وهو ثلاثمائة واحد.. وبشرط أن تسلمه المقاومة اثنين من المحتجزين المتبقين لديها مقابل كل دفعة!!
٣- طلب أيضا تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق والتى امتدت ستة أسابيع، لستة أسابيع أخرى إضافية يحصل فيها على جميع من تبقى لدى المقاومة من محتجزين.
وهذه الطالب الثلاثة انقلاب كامل على الاتفاق ولا وجود لها فى نصوصه.. وتمثل صفقة لا يجب القبول بها.
وزاد على ذلك بإصدار تعليماته للجيش الإسرائيلى بأن يكون فى أقصى حالات الجاهزية لاستئناف القتال كوسيلة ضغط عسكرية على المقاومة وعلى الوسطاء استثماراً لتضامن الرئيس ترامب معه.
وهذا ما فعله نتنياهو ويفعله فى كل اتفاق يوقعه.. وهو انتهاكه والانقلاب عليه.
وهو يستند فى ذلك إلى الدعم الأمريكى غير المحدود لإسرائيل، وإلى القدرة المحددة للوسطاء على إلزام إسرائيل بما وقعت عليه من اتفاقات وإلى بطء وعدم فاعلية تدخل المجتمع الدولى لتطبيق القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية التى يعوّل الظهير العربى للفلسطينيين على الالتزام بها.
يضاف إلى ذلك، أن أى وسطاء فى أى اتفاق تكون إسرائيل طرف فيه، لابد أن تكون أمريكا على رأسهم.
وأن أى اتفاق لا ينص على ضمانات دولية لتنفيذه، أو عقوبات على الطرف الذى ينقضه.
عندما وقعت إسرائيل على اتفاق وقف إطلاق النار فى لبنان، قلت فى هذا المكان إنه اتفاق فى مهب الريح وأن إسرائيل ستنتهكه عند أول فرصة لما فعلت مع جميع اتفاقاتها السابقة.
وحدث ذلك ومازال يحدث حتى اليوم.. ولم توقف إطلاق النار بل مددته رغم التزام الجانب اللبنانى به وتطلب بقاء قواتها فى مواقع محددة فى الجنوب اللبنانى لأجل غير محدد بدعوى الإجهاذ على أى تهديدات لمواطنيها فى الشمال.
ويحدث الآن مع غزة.. بينما تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية فى الضفة الغربى وتهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين بها مع قرار بعدم عودتهم مثلما تُصر على تهجير أهل غزة، والتخلص نهائيا من القضية الفلسطينية.
واستمرار السماح بوجود طرف دولى فوق القانون وخارج نطاق المحاسب يعنى استمرار حالة عدم الاستقرار وغياب الأمن والسلام لكل من حوله.
واستمرار ذلك أيضا من شأنه على المدى البعيد تقويض مصالح من يسمح به من القوى الكبري، أو يرضخ له من دول الإقليم.