كلما شاهدت بعض البرامج أو المسلسلات هذه الأيام ترحمت على أيام زمان، فشتان بين البساطة والنقاء الروحى وبين التفاهة والابتذال..أما الآن فقلما تجد برنامجًا يعطيك جرعة ثقافية أو دينية باستثناء برنامج شيخ الأزهر د.أحمد الطيب.. فمثلًا ماذا يريد برنامج مقالب يعرف ضيوفه مسبقًا، وهم فى الغالب فنانون ومشاهير، ما سيحدث لهم من إهانة ورغم ذلك فهم يقبلون بالظهور فيه مع أنهم لا ينقصهم مال ولا شهرة، فلماذا يقبلون بالابتذال والمهانة فى مشاهد أقل ما يقال عنها إنها مسيئة ولا تقدم للأجيال الجديدة أى قيم أخلاقية ولا تحرك فيهم همة لتحصيل علمى أو دراسى ولا تنمى فيهم حب العمل والإنتاج للإسهام فى مسيرة وطن تشتد حاجته لكل جهد مخلص وفكر مبدع وساعد يبنى وينتج..؟!
وسؤالى لكل شخص يقبل بأن يحل ضيفًا على هذا البرنامج أو ذاك وهو لا تنقصه شهرة ولا مكسب مادي: ماذا يفيدك إذا كسبت مالًا وخسرت احترام الناس لك.. خصوصًا مع إصرار مقدم هذا البرنامج على إذلالك والانتقاص من شأنك..؟!
وحتى المسلسلات فبعضها تخلو هى الأخرى من مشاهد مقززة يخرج فيها الممثل ممسكًا بسيجارة أو سكينً أو متلبسً بألفاظ خادشة، وحتى المسلسل التاريخى الذى تقدمه الشاشات فى هذا العام «معاوية» «والذى أمتنع عن الخوض فى تفاصيله ومآخذ البعض عليه»، فقد أثار من الجدل والتشتيت أكثر مما صنعه من وعى بالتاريخ واستفادة من دروسه القيمة فى بناء مسارات أكثر ارتباط بهويتنا وحضارتنا وأكثر قدرة على التواصل مع عصرنا الذى لا يرحم الضعفاء ولا يقيم لهم وزنًا.
وهنا يثور سؤال مهم:: هل نحن قادرون على استعادة التوازن بين الحداثة والقيم الأصلية؟
السؤال معقد ويحتاج إلى نظرة شاملة من زوايا عديدة؛ فالمصريون مثل أى شعب تغيرت عاداتهم بمرور الزمن بسبب عوامل اجتماعية، واقتصادية، وثقافية.
فمثلًا تعاملهم مع رمضان تحول بصورة دراماتيكية، فقد كنا نستقبل هذا الشهر الفضيل زمان بفرحة حقيقية بأبسط الأشياء، نجتمع على طبلية واحدة، نجعل للغلبان »وهو شخص من ذوى الهمة غالبًا« يومًا ندعوه إليها ليتناول طعامه معنا، يجلس بيننا يأكل مما نأكل وكأنه واحد من أسرتنا، ثم ننطلق مبتهجين إلى صلاة العشاء والتروايح بمسجد القرية، ثم نستمع لدرس علم يلقيه شيخ على قدر بسيط من العلم، لكنه يجيد الحديث بلباقة تأسرك وتجذبك إليه، حتى إذا فرغنا من الصلاة عدنا للبيوت لنلتف حول مسلسل هادف على إذاعة الشرق الأوسط قبل أن ينطلق البث التليفزيونى الذى بدأ أيضًا بصورة بسيطة ولساعات محدودة، عرفنا من خلاله إبداعات درامية لا تنسى مثلما فعل المبدع المتفرد أسامة أنور عكاشة الذى صاغ من الواقع دراما تستلهم روح المجتمع وتبنى الوعى بحركة التاريخ بخلاف ما يحدث اليوم من كثرة للمسلسلات لكنها غثاء كغثاء السيل، كثرة تلهى الناس دون أن تقدم إجابة لسؤال الوقت: ماذا علينا أن نفعل للحفاظ على الأوطان وبناء نهضة تحفظ ما بقى من هويتنا وقيمنا ووحدة أمتنا..؟!
للأسف تحوّل رمضان من شهر للزهد والتقوى إلى موسم استهلاكى ضخم، حيث يزداد الإنفاق على الطعام والشراب بشكل كبير، رغم أن روح الصيام الحقيقى هى الشعور بحرمان الفقير وممارسة التقشف والزهد فى المباح فما بالنا بالمحرمات !!.
فى الماضي، كان رمضان يتميز بروحانيات وتجمعات عائلية تنشر الدفء والسرور بين أصحابها، بينما أصبح الآن موسمًا لعروض مسلسلات وبرامج ترفيهية تستهلك جزءًا كبيرًا من أوقات الناس وتصرفهم عن الأولويات.
ورغم أهمية التكنولوجيا ووسائل التواصل فإنها عصفت بالتفاعل الحقيقي، فأصبح البعض يكتفى بتهنئة الأهل برسائل رقمية بدلاً من التزاور والتلاقي.. أما التكافل الاجتماعى زمان فقد كان أكثر بساطة وحميمية فى رمضان ويتدفق بشكل مباشر بين الجيران والأقارب، أما الآن فقد خلا من العفوية والروح الأصيلة، بعد أن صارت تتولاه جمعيات خيرية أو لجان زكاة فى المساجد وغيرها.
عادات رمضان الآن اختلفت كثيرًا عن عادات زمان؛ فثمة تغيرات اجتماعية وتكنولوجية ضربت المجتمع، فشتان بين اللمّة العائلية التى كانت تجمع العائلات حول مائدة إفطار واحدة يوميًا، ويتشارك الجيران الطعام فيما بينهم..
ولا أنسى مشاهد المسحراتى الذى كان يجوب الشوارع بطبله ينادى الناس للسحور فى القرية، وكنا أحياناً نصحبه ابتهاجًا بهذه الأوقات، حيث يتجمع الأطفال فى الشوارع ومعهم الفوانيس ينشدون أغانى شعبية.
ورغم بساطة الموائد الرمضانية فى البيوت حيث يجرى تحضير الطعام والحلوى وخصوصًا الكنافة والقطايف فى البيوت يدويًا قبل أن يعرف الناس الاختراعات الحديثة، لكنها كانت أشهى وألذ طعمًا؛ ذلك أنها تصنع فى بيوت يملؤها الحب والتراحم.
زمان كان الناس يصنعون بهجتهم بأنفسهم، فهناك التراث الشعبى والحكايات التى توارثتها الأجيال، تروى للأطفال فتدخل إلى نفوسهم السرور قبل أن تجتاح مسلسلات رمضان (رغم تحفظى على تلك التسمية) بيوتنا دون استئذان بقيم وعادات وسلوكيات تتنافى مع قيم الشهر الفضيل.
أما الإعلانات فهى فاخرة تخاطب فئة أقل من 5٪ من فئات المجتمع، وهى تروج لمنتجات لا يقدر عليها السواد الأعظم من المصريين فلماذا هذا الاستفزاز الذى صار ظاهرة ملحوظة، سواء فى التلفزيون أو على وسائل التواصل الاجتماعي.. فماذا تفعل تلك الإعلانات سوى أنها تعزز الاستهلاك غير العقلانى.