لأن الله أدبه فأحسن تأديبه وأعده لمهمته الجليلة منذ كان فى صلب أبيه آدم إلى أن ولد عام الفيل فقد تميز بأهم ما يتميز به العظماء ألا وهو القدرة والعظمة ، والقدرة والعظمة أمران بينهما اختلاف كبير وكما يقول شيخى الراحل الفيلسوف الدكتور طه حبيشى فى كتابه « سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حياته وعظمته «إن القادر يستعمل قدرته فى تحقيق أهدافه أيا كانت هذه الأهداف تنفع أو تضر لكن العظيم بالمقاييس الإنسانية والأخلاقية يسخر هذه القدرة فى إسعاد الناس أيا كان هؤلاء الناس فينفعل بآلامهم ويتألم لمصيرهم المؤلم ، بل يستخدم قدرته فى مصلحة أناس من بنى نوعه لم يخلقوا بعد وقد أخرت المقادير خلقهم إلى ميعاد محتوم وإذا كان كل عظيم قادرا فليس كل قادر عظيما».
إذن عندما تخدم القدرة العظمة وتضبط العظمة القدرة يتحول الكون إلى جنة غناء يسعد فيها البشر بل وغير البشر وعندما تختفى العظمة فى وجود القدرة يتحول هذا الكون إلى جحيم لا يطاق لأنها قدرة بلا كابح أو ضابط.
يذكر الدكتور حبيشى نموذجا واضحا على سيطرة العظمة على القدرة وتوجيهها حتى فى لحظات الانفعال والأذى الذى من شأنه أن يدفع من وقع عليه الأذى إلى الانتقام خاصة إذا ما كان الأمر فى لحظة فعل الأذى هذا.
النموذج تمثل فيما كان من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خرج من الطائف مطرودا يتعقبه سفهاؤهم بالحجارة حتى أدموا قدمه فينزل عليه سيدنا جبريل ومعه ملك الجبال ويقول له ملك الجبال: «إن ربى قد أمرنى أن أكون طوع امرك فإن شئت أطبقت عليهم الاخشبين» أى الجبلين ولو أمر النبى ملك الجبال ما لامه أحد، فالمؤمنون به سيرون أن هذا جزاء وفاقا لما فعله المشركون بنبى الله حتى شكا إلى ربه ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس كما أن أعداءه سيرون أن ما حدث ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بالنبى صلوات الله وسلامه عليه غير أن النبى كما يقول الدكتور حبيشى رحمه الله له مقاييس أخرى تلائم عظمته وشخصيته وفطره التى فطره الله عليها فحين رأى النبى القدرة والعظمة وجها لوجه وأن القرار قد صار إليه والإرادة قد أصبحت له أبى إلا أن تكون القدرة خادمة للعظمة والعظمة فى غير النبى أقصاها أن تراعى منفعة اناس يراهم فينفعل بهم ولكن العظمة عند النبى تمتد لتشمل أناسا يخرجون من أصلاب الكافرين ويرجو النبى لهم أن يكونوا على خلاف منهج آبائهم وأجدادهم فسجل التاريخ جوابا قاله النبى صلوات الله وسلامه عليه للملك: إنى أرجو أن يخرج من اصلابهم من يقول لا إله إلا الله.
لم يكن هذا هو المثال الوحيد على عظمة النبى صلى الله عليه وسلم بل رأيناه وهو يعانى اشد الأذى هو وأتباعه يدعو الله أن يهدى قومه قائلا: اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» وفى فتح مكة غلبت صفات العظمة عنده صفات القوه فقال لكل من آذاه اذهبوا فأنتم الطلقاء وقال: « اليوم يوم المرحمة» لمن قال: «اليوم يوم الملحمة».
هذه العظمة كانت درسا عمليا لأتباعه فسارا على نهجه لذا وجدنا القادة المسلمين يسيرون سيرته فى تعاملهم مع الناس أصدقاء أو أعداء وها نحن نرى صلاح الدين الايوبى وهو يدخل القدس منتصرا يعفو عن أعدائه وهو يعلم ماذا صنعوا بالمسلمين حين احتلوها لكن اقتداءه بالرسول منعه أن ينتقم منهم.