«بيت المهمل يخرب قبل بيت الظالم»..هذه خلاصة الحكمة الشعبية التى تجذرت فى ثقافتنا عبر مئات السنين.. وهى حكمة صادقة تعكس قدرًا كبيرًا من الواقعية والموضوعية؛ فالإهمال نهايته الخراب، فما استشرى فى مجتمع إلا كان سبباً فى تأخره وتعاسة أبنائه؛ وهو الوجه الآخر للفساد؛ فساد الضمير، وفساد الفطرة، وفساد التفكير.. وكل مهمل بالضرورة هو فاسد بدرجة أو بأخري.
الإهمال تضييع للأمانة، يدل على فقدان النخوة والشرف والمروءة، وهو سوس ينخر فى عظام المجتمعات ويبدد فرص أجيالها فى حياة كريمة..وليس هناك فارق بين مهمل وآخر إلا فى حجم ما يترتب على إهماله من ضرر لكن النتيجة واحدة: خراب ودمار وضياع حقوق وإزهاق أرواح وإهدار موارد وتبديد فرص تقدم وتطور..ولست فى حاجة لدليل على ما أقول..وإلا فقل لى بربك: ماذا تتوقع من طبيب أهمل علاج مرضاه إلا مزيداً من تدهور واعتلال صحتهم وتضاؤل فرص شفائهم..فماذا لو نسى هذا الطبيب «فوطة» فى بطن مريضه بعد عملية جراحية مثلاً..وماذا لو أخطأ مهندس إنشاءات فى تصميمات بناية شاهقة مثلاً ثم اكتملت منظومة الإهمال بالغش فى مواد البناء تورط فيه مقاول فاسد ..فكيف ستكون العاقبة..وماذا لو نام عامل مزلقان سكة حديد وترك هذا مزلقانه مفتوحاً ليهوى تحت عجلات القطارات من يسوقهم حظهم العاثر لموقع الجريمة..وماذا لو أهمل سائق سيارة وقادها بسرعة جنونية فاصطدم بغيره..وماذا لو تأخر المسئول أى مسئول فى إصدار قرار ما فى وقته.. وماذا لو أغمض رئيس حى عينيه عن المخالفات تاركاً إياها تكبر وتتوحش دون رادع حتى يتسع الخرق على الراتق وتصبح واقعاً لا سبيل لتغييره أو تصحيحه..أليس ذلك وغيره مما نراه فى حياتنا اليومية إهمالاً يفضى إلى خسارة أو خراب أو تدمير..أليس القاسم المشترك بين كل المهملين واحداً وهو اللامبالاة والبلادة والجهل وانعدام الضمير..وقس على ذلك أحوالاً كثيرة..فإذا ما اجتمع الإهمال والفساد فى أى مجتمع ..فقل عليه السلام؛
المهل مجرم؛ والإهمال كما تقول دار الإفتاء المصرية لا يقل خطراً عن الإرهاب والتخريب العمد؛ فالفرد الذى يهمل فى أداء عمله تهاوناً أو تكاسلاً يلحق بمجتمعه كثيراً من الخسائر..ومن يفعل ذلك يكن عاصياً لله ولرسوله، ومفسداً فى الأرض وخائناً للأمانة التى ائتمن عليها..ولا ننسى أن الله يقول فى كتابه الكريم»إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا».
ولا عجب والحال هكذا أن يقع المهملون فى دائرة الخيانة؛ فكم من مهمل فى عمله تسبب فى تعاسة غيره ..وما أعمق مقولة الشيخ الشعراوى رحمه الله» أن عناء الجيل الحالى ناتج عن كسل جيل سابق»..والكسل هنا مرادف للإهمال؛ ذلك أن ترك العمل الواجب هو إهمال وجُرم كبير يتسبب فى عناء البشر ويسلب المجتمعات حقها وحظها فى التطور والتقدم وإلا ما قال النبى الكريم»إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فى أيديهم « أى يسألون الناس الصدقة.!!
الإهمال آفة مهلكة..لا سبيل للخروج من دائرته الجهنمية إلا بتربية الضمير على الإتقان ومراقبة الله فى السر والعلن وتغليظ عقوبة المهمل المتكاسل فى عمله ولن يتأتى ذلك إلا بمزيد من التوعية بخطورة هذه الآفة أو بتعديل القوانين والتشريعات لتكون أكثر ردعاً كما تفعل دول كالصين مثلاً التى جعلت الإعدام عقوبة للمفسدين .
الإهمال اعتداء صريح على حقوق الآخرين وأرواحهم..وليس هناك فارق كبير بين من أهمل عن عمد ومن أهمل جهلاً وتساهلاً أو سهواً ..فالنتيجة واحدة وهى الخسارة المحققة بدرجات متفاوتة حسب موقع المهمل ووظيفته ومدى تأثيرها فى حياة الناس.
لا مخرج من دائرة الفساد إلا بإعادة بناء الضمير ليرفض من تلقاء نفسه كل سلوك منحرف مهما يكن هيناً، بدءاً من إلقاء القمامة فى الشارع مروراً بالغش، وصولاً لإزهاق الأرواح بأى طريقة كانت ولن يتحقق ذلك إلا باستراتيجية علمية وحركة مجتمعية موحدة ومتناغمة تنهض بها كل الأطراف المعنية بصناعة الوعى والوجدان حكومية أو غير حكومية، وصولاً لمجتمع خالٍ من الإهمال والفساد والعنف والمرض، مجتمع متماسك بفضائله وقيمه وحضارته الموروثة وتعليمه الجيد الذى جعله الرئيس السيسى فى صدارة أولوياته، مجتمع الترابط الذى إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي؛ حتى يظل مجتمعنا فى رباط إلى يوم الدين.