يقولون إن معظم النار من مستصغر الشرر؛ ولعل الاهمال هو مستصغر الشرر الذى تتعاظم به الشرور والآثام وتتفاقم الأزمات وتتأخر المجتمعات ويقع بسببه الخراب والتخلف والدمار.. وهو سوس ينخر فى عظام أى مجتمع وآفة يجب التخلص منها إن أردنا تقدما وإنجازا.. والبداية بأن نعترف بالعلة ثم نقتنع بحاجتنا للتغيير، وعلينا أن نغير أولا ما بأنفسنا بأيدينا؛ فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولعل ما ننشده هنا هو أن نغير عاداتنا وسلوكياتنا الذميمة، وأن نصحح مفاهيم كثيرة مغلوطة تمكنت من العقول والنفوس، ولتكن البداية بعمل درامى كبير مدروس بعناية يتصدى للإهمال والفساد ويستعيد روحنا الأخلاقية وقيم الولاء والانتماء الوطنى والترابط والتعايش وإتقان العمل والاجتهاد فى كل حقل حتى يقوى المجتمع وينهض الوطن ويصبح رداءً للجميع.
الحكمة تقول إنه لا صغيرة مع الإصرار؛ فمعظم النار من مستصغر الشرر، تكرار الأخطاء الصغيرة ينقلها دون أن ندرى إلى خانة الكبائر، فترك حفر فى الشوارع مثلاً يعرض المواطنين لخطر جسيم خاصة كبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة.. فهل يحتاج إصلاح مثل تلك الحفر والمطبات لميزانية ضخمة.. ظاهرة تكرار تسريب الامتحانات، رغم جهود الوزارة لمنعها بالتعاون مع الداخلية، أمر غير مقبول.. والأكثر سوءاً أن يقبل به ضمير أولياء الأمور ويرتاح له الطلاب؛ وتلك آفة حقيقية تهدر مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة فى اكتساب الدرجات كما ينبيء بدلالات ومؤشرات أشد خطورة أهمها أن ضمير المجتمع فى أزمة حقيقية وأن القائمين عليه يريدون تكريس خلل تربوى فى نفوس طلابنا وهو ما يفضى لنتائج سلبية وخيمة على أبنائنا ومجتمعنا أقلها الدرجات الوهمية التى اكتسبها دون حق طلاب غشاشون سوف تصير إليهم أمور الناس فى المستقبل؛ وهؤلاء لا يدركون قول نبينا الكريم «من غشنا فليس منا».
الإهمال عدو التقدم والتطور.. وهو المتهم الأول فى جرائم وكوارث لا حصر لها.. به تتعطل المصالح، وتهدر الأموال ويتراجع الإنتاج ويضعف الاقتصاد وتتعرض النفوس للمخاطر.. ولا مناص إن أردنا مجتمعاً عفياً يقظاً من تعليم أبنائنا منذ نعومة أظافرهم كيف يتحملون المسئولية والأمانة لقول سيد المرسلين من رواية عبد الله بن عمر رضى الله عنهما : (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) متفق عليه.
إذن كلنا مسئولون لكن بدرجات مختلفة، فالمواطن المكلف بمسئولية هو مسئول عن كل شيء وهى مسئولية لا يشاركه فى حملها أحد غيره :» فَوَرَبِّكَ لَنَسئَلَنَّهُم أَجمَعِين عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ» (الحجر:93).
ومن أسف أننا إذا ما تتبعنا أحوال كثير من مجتمعاتنا نجد الإهمال والتسيب يضرب بجذوره فى تربتها ويعشش فى زواياها ويعيث هدماً فى أركانها.. انظروا مثلاً لمهندسى الطرق وموظفى الأحياء الذين تركوا حفراً وشروخاً فى الطرق والشوارع دون إصلاحها.. كم تسببوا فى حوادث وأعطاباً للمركبات.. وانظروا إلى ميكانيكى يهمل فى إصلاح سيارة فأضر بصاحبها، وإلى طبيب لم يفحص مريضه بصورة كافية فسبب له مرضاً مزمنا أو عاهة مستديمة حتى الفريق الرياضى الذى لم يتم تدريبه بجدية فتكون النتيجة حصد الهزائم بسبب الإهمال والتسيب وعدم اكتشاف المواهب وصقلها دون محسوبية وهو ما يفسر لماذا ترجع أداء منتخبنا كثيراً .
وكم أضاع المدير أو المسئول المهمل حقوقاً للناس وأذاقهم معاناة مريرة وعطل مصالحهم ووقف حجر عثرة دون قضائها وهو قادر على أدائها دون أن يدرى أنه واقع تحت طائلة قول النبى الكريم « «مَنْ ولَّاهُ الله -عز وجل- شيئًا مِنْ أَمْر المسلمين فاحْتَجَبَ دُونَ حاجَتِهم وخَلَّتِهِم وفقرهم، احْتَجَبَ الله عنه دون حاجَتِه وخَلَّتِهِ وفقره» قال: فَجَعَل رجلاً على حَوائِج الناس.
ولست أشك أن ما نراه من ضعف فى مستويات التعليم والإنتاج وظهور سلوكيات خاطئة إنما هو نتاج إهمال جسيم؛ ذلك أن جودة العمل تتحقق بالإخلاص والصدق ومراقبة الله تعالى الذى يقول فى كتابه الكريم « وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة: 105).. ومن ثم فإن الشعوب لا تتقدم إلا بإتقان العمل وهو ما يجب أن نحرص عليه ونعلمه أولادنا.. يقول الله تعالي:» « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا»(الكهف:30).
ما تقوم به الحكومة حالياً من ميكنة للإجراءات خطوة مهمة لتقليل تدخل العنصر البشرى ومن ثم تفادى الأخطاء وتمكين الأجهزة لتقوم بواجبها فى غل يد الإهمال والفساد والمفسدين ولسوف يحسب إنجازاً لتلك الحكومة أو أى حكومة إذا ما نجحت فى استئصال شأفة الإهمال والفساد وحماية المجتمع من آثامه وشروره ليس بترصده ومحاربته بل بمنع وقوعه أصلاً؛ فالوقاية خير من العلاج وذلك بالتزامن مع تشديد عقوبات المفسدين والأخذ على أيدى المتقاعسين عن أداء واجبهم وكفانا ما عانيناه سنين طويلة من إهمال وفساد وبيروقراطية يضيع معها كل جهد مخلص وعمل دءوب لنهضة هذا البلد.. آن أوان التخلص من معوقات التقدم لاستكمال الجمهورية الجديدة التى يسعى إليها الرئيس السيسى متطلعًا لتوفير حياة كريمة لكل موطن فيها بلا منغصات ولا فساد ولا إهمال.. فهل يتحمل كل منا مسئوليته وينهض بواجبه دون إبطاء أو كسل أو إهمال.. وهل نعلِّم أولادنا أن الإهمال أخطر من الفساد، به تخرب البيوت وتنهار الدول وتفسد المجتمعات.. !!
نحتاج الى تشريع يجرم كل صور الإهمال
نتمنى أن تبدأ الحكومة الجديدة عملها بالحرب على الإهمال والفساد فى كل مكان، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح فليس أعظم من الإهمال مفسدة .