مصداقية الإعلام وحقوق الإنسان تكشفان ازدواجية «واشنطن»

فى مشهد تتكثف فيه ملامح الصراع السياسى داخليًا وخارجيًا، يعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى الواجهة بسياسات تثير الجدل وتعيد رسم خطوط الانقسام. على الساحة الدولية، يتبنى ترامب موقفًا حادًا؛ إذ يعلن دعمه المطلق لأوكرانيا فى وجه روسيا، ويقف إلى جانب إسرائيل فى حربها المفتوحة ضد إيران وحماس، ساعيًا إلى فرض «سلام» يخدم مصالحه ويستبعد أى توازن حقيقى أو عدالة دبلوماسية، وكأنه يرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط وفق رؤيته الخاصة.
أما فى الداخل الأمريكي، فالنبرة تتصاعد، مع اشتداد الخلاف بين ترامب ووسائل الإعلام، التى لم تتوقف عن انتقاده وكشف تناقضاته، ليرد عليها بحملات تشكيك وهجوم مباشر، متهمًا إياها بترويج الأكاذيب والنيل من «النجاحات» التى يدعيها. ويظهر ترامب اليوم أشد رغبة فى السيطرة على الخطاب العام، فى محاولة لخنق حرية التعبير، والعودة إلى مناخ تكميم الأصوات المخالفة الذى ميز ولايته الأولي.
وفى أكثر المشاهد سوداوية، تكشف الإدارة الأمريكية عن مشروع سجن جديد للمهاجرين غير النظاميين، فى منطقة نائية تغمرها المستنقعات، تعجّ بالتماسيح والثعابين. هذا المشهد يختزل كيف تتحول سياسات الهجرة فى عهد ترامب إلى أدوات قمع وترويع، تمزق أوهام حقوق الإنسان.
يقول المثل الأمريكي: «إذا لم تستطع حل المشكلة، فكبّرها حتى تختفى وسط الدخان». ويبدو أن الرئيس الأمريكى العائد إلى المسرح الدولى عام 2025، دونالد ترامب، قد فهم الدرس جيدًا، رافعًا شعارًا جديدًا لـ»السلام» بصيغته الخاصة: «السلام من فوهة البندقية، والدبلوماسية عبر تغريدة».
ترامب، الذى يطل على العالم مجددًا بحلة «السلام»، لا يتردد فى أن يمد غصن زيتون بيد، بينما يشهر مدفعًا رشاشًا بالأخري. ففى الوقت الذى تفيض عيناه تعاطفًا مع صور الأطفال فى غزة، لا يتوانى عن توقيع صفقات الأسلحة مع حكومة نتنياهو، يعلن وقف إطلاق النار فى الشرق الأوسط، ثم يقصف المنشآت النووية الإيرانية، ثم يعلن عن بدء مرحلة السلام، يطالب بإنهاء الحرب فى أوكرانيا، ويواصل إرسال الدبابات إلى كييف.
هذه هى مفارقات دونالد ترامب، الرئيس الأمريكى الذى يرى نفسه الأوفر حظًا- فى رأسه فقط- لنيل جائزة نوبل للسلام عام 2025، من غزة إلى أوكرانيا، ومن طهران إلى كشمير، لا تمر أزمة دولية إلا وكان ترامب طرفًا فيها. يتقمص دور «حمامة السلام» تطير أجنحته على صواريخ كروز وقنابل ذكية أمريكية الصنع. وبينما يغرق العالم فى دوامات من التوترات، لا يتوانى ترامب عن تهيئة حملته لنيل نوبل للسلام بمنطق لا يفهمه أحد… سوى ترامب نفسه.
أعرب الرئيس الأمريكى مرارًا عن استحقاقه للجائزة، مشيرًا إلى جهوده «لوقف» الحرب بين الهند وباكستان، ومحاولاته لحل الصراعات بين روسيا وأوكرانيا، وإسرائيل وإيران. بل كتب فى منشور على منصته الاجتماعية «تروث سوشيال» الجمعة الماضية: «لن أحصل على جائزة نوبل للسلام مهما فعلت».
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، أظهرت الولايات المتحدة دعمًا عسكريًا غير مسبوق لكييف، تجاوز 75 مليار دولار حتى نهاية 2024، وفقًا لتقرير «معهد كيل للاقتصاد العالمي». وفى عهد ترامب، لم يتراجع هذا الدعم، بل تصاعد. أما النتيجة؟ أكثر من 500 ألف قتيل من الجانبين، بحسب تقديرات مركز CFR الأمريكي، وأكثر من 8 ملايين لاجئ أوكرانى وفق بيانات مفوضية اللاجئين الأممية.
وفى الشرق الأوسط، كانت حرب الـ12 يومًا بين إيران وإسرائيل فرصة جديدة لتجلى «السلام الترامبي». دعمت واشنطن تل أبيب، وتدخلت عسكريًا مباشرة. ففى 22 يونيو الجاري، قصفت طائرات «بى 2 الشبح» ثلاث منشآت نووية إيرانية فى أصفهان ونطنز وفوردو، بحجة منع التخصيب «غير السلمي». بعد أسبوع فقط، خرج ترامب بمبادرة «وقف إطلاق النار الشامل فى الشرق الأوسط»، داعيًا إلى ضبط النفس. المحللون شبّهوا المبادرة بـ «إطفاء النار بسكب البنزين، ثم رفع لافتة: نأمل أن تهدأوا».
منذ بدء العدوان الإسرائيلى على غزة فى أكتوبر 2023، ارتفعت أعداد الشهداء الفلسطينيين إلى ما يزيد عن 55 ألف، حسب تقارير الأمم المتحدة. وبينما كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف المدنيين، وقّعت إدارة ترامب الجديدة على مساعدات عسكرية للاحتلال بلغت 14.3 مليار دولار، وفق موقع «ذا هيل». وفى يناير 2025، أعلن ترامب عن خطة «صفقة تهدئة شاملة»، تضمن أمن إسرائيل أولا … دون أى ذكر لغزة أو لحقوق الفلسطينيين.
ولم تقتصر مساهمة ترامب على الدعم العسكرى فقط، فقد مارست واشنطن فى عهده ضغوطًا دبلوماسية مكثفة، مستخدمة حق النقض (الفيتو) عدة مرات فى مجلس الأمن لإفشال قرارات تدين الانتهاكات الإسرائيلية. كما أعلن انسحاب بلاده مجددًا من مجلس حقوق الإنسان، واصفًا إياه بأنه «نادٍ للكارهين لأمريكا».
رغم كل التناقضات، يقود ترامب حملة إعلامية ضخمة تحت شعار: «الرئيس الذى أوقف كل الحروب الكبري، بشجاعة وصواريخ أمريكية». بل افتتحت حملته الانتخابية لعام 2025 مقرًا رمزيًا فى أوسلو، يحمل لافتة عملاقة: «جائزة نوبل… احجزى لى موعدًا قريبًا».
فإن كان السلام يُقاس بعدد القنابل التى لم تُطلق، فقد يستحق ترامب الجائزة. وإن كان يُقاس بعدد الأزمات التى انتهت دون افتعال أزمات جديدة، فربما الأجدر به الترشح لنوع مختلف من الجوائز: نوبل فى الكوميديا الجيوسياسية السوداء.
قد لا يحصل ترامب على نوبل للسلام، لكنه دون شك سيظل الرقم الأصعب فى مسرح عبث السياسة الدولية، حيث تختلط الابتسامات المزيفة مع الانفجارات الحقيقية.