أحياناً يجد الإنسان نفسه أمام أسئلة مصيرية، مهما حاول تجنب الإجابة عنها لكنها تظل تطارده وتفرض نفسها، لأن الظروف تؤكدها. من هذه الأسئلة ما يتعلق بالأولويات.. ما الذي يستحق أن يتقدم في الاختيار؟.. فى الاقتصاد والسياسة وحتى الحياة الخاصة. وعندما تكون الأولوية خاصة بمصير الوطن ومستقبله فالسؤال يصبح أهم وأصعب.
ومن الأسئلة التي تستحق أن نطرحها الآن في ظل ما يحدث حولنا سؤال حول أيهما أولي ؟.. أن نعيش حياة صعبة بعض الشيء وأن نتحمل لبعض الوقت، أو نفقد الدولة تماما ونواجه مصيرًا كارثيًا؟.
قد يكون السؤال مستفزًا للبعض، وقد يراه آخرون تزايدًا في رؤية الواقع، بل قد يرفضه البعض من الأساس لأنهم لم يفكروا لحظة واحدة أن هذا السيناريو مطروح، رغم أن المشهد فى محيطنا كاشف لما تسير فيه التطورات، وتشير بوضوح إلى أن مصر مستهدفة، ولولا امتلاكها قوة الردع التي يعلمها الجميع، والقيادة الحكيمة التي تدير الملفات بعقلانية وتدرك حدود السلاح جيدًا والتماسك الشعبي، لكانت مصر فى قلب الدوامة التى لا يعرف أحد إلى أين تذهب بمن سقطوا فيها بل وبالمنطقة كلها.
الصورة تقول إن الإقليم فى أزمة غير مسبوقة، وإن التحركات متسارعة لتغيير الخريطة التي تشهد كل ساعة تحولا دراماتيكيا، ولن يفلت منها سوى من يدرك حجم الخطر ويقرأ المشهد جيداً ويتعامل معه بذكاء وقوة، لأن الأمر يتعلق بسيادة الدول التي لم تعد فيها مناطق وسط، إما سيادة حاسمة يحترمها الجميع أو مستباحة، وعندما نراجع أحداث العام الأخيرة منذ بدأت الحرب على غزة وكم سيادة تمت استباحتها سنفهم تماماً كيف تدار الأمور، وأن القضية لم تعد عند الشعوب بالكامل البحث عن توافر السلع أو معدل الأسعار أو حتى مستوى الخدمات، وإنما أصبحت الأولوية الوحيدة عندهم البحث عن الأمان والبقاء على قيد الحياة أو وجود مأوى للأسرة.
الصورة في غزة كاشفة، نحو مليوني إنسان تم تهجيرهم من أماكنهم أكثر من مرة، يتنقلون من مخيم إلى آخر ومن خيمة إلى خيمة، وبعضهم أجبر على التهجير أكثر من عشر مرات، ومع كل مرة معرض أن يفقد ابنًا أو أخًا أو أبًا أو زوجة، فالموت لم يترك أسرة غزاوية تقريبًا وبعض الأسر تم القضاء عليها كاملة.
نفس الوضع بدأ في جنوب لبنان ويمتد كل يوم نحو شمالها، وتحولت أسر كانت تعيش مستقرة إلى مجموعات من المشردين الباحثين عن الماوي.
وانتقلت الكارثة إلى اليمن، ولا نعلم إلى أين تذهب بعد ذلك، لكن المؤكد أن الأفق ليس فيه ما يبشر بالخير على المنطقة بالكامل، فكل شيء أصبح متوقعاً وكل الخيارات والسيناريوهات مفتوحة، وليس أمام أي دولة إلا أن تتشبث بمقادير القوة التي تمتلكها كي تحمى نفسها وشعبها، فلا مجال الآن أو مساحة لضعيف.
فلابد أن تكون قويًا حتى تستطيع أن تؤمن نفسك وتحمى سيادتك وتدافع عن أرضك ومقدرات شعبك، فالمنطقة أمام مخطط إسرائيلي لم يعد يخفى على أحد ومخازن السلاح الأمريكية مفتوحة له على مصراعيها والميزانيات بلا حدود، وليس هذا فحسب بل كل القواعد العسكرية بالمنطقة وما تم من تعزيز لها في خدمة وحماية هذا المخطط، وكما تابعنا على مدى الشهور الماضية دولا كانت تصور نفسها للجميع أنها قوية وفجأة انتهكت سيادتها مرات دون أن تفعل شيئا لأنها غير قادرة على المواجهة.
كل هذا المشهد يضعنا أمام حقائق يجب أن نصارح أنفسنا بها حتى نفهم ما يحدث.
أولى هذه الحقائق: أن امتلاك القوة أمر لا بديل عنه، فلم يعد رفاهية بل صار فرضًا واجبًا، وإذا كان البعض خلال السنوات الماضية يشكك فى أهمية كل ما اتخذته الدولة من إجراءات لدعم تسليح الجيش المصري، فإن ما يحدث بالمنطقة الآن هو خير رد على هؤلاء وإثبات بأن قيادة الدولة كانت تتحرك في هذا الملف برؤية لأنها كانت قارئة بشكل مسبق للمستقبل، ومدركة لما يتجه إليه الصراع، وعملت مبكرًا واستعدت بعلم وفهم لدعم قدرات الدولة وتعزيز صلابتها.
الثانية: أن الأصل في القضية ليس فقط دولة تواجه من خلال مؤسساتها مهما امتلكت من قوة، وإنما الأهم هو تماسك الشعب وتوحده وتحمله مسئولياته، وهذا هو العنصر الأهم.
وعندما نراجع خريطة الانهيارات والدول التي خرجت من المعادلة في المنطقة سنجدها الدول التى تعانى الانقسام والصراعات الداخلية أيا كان سببها، وتتزايد فيها الازمات بسبب عدم التماسك، ولهذا فهى دول غير قادرة على التصدى أو تجميع قواها، مما سهل استباحة سيادتها وسهولة تدمير قدراتها.
الثالثة: أن الهم الأول لكل شعوب الدول المنكوبة الآن هو الأمان والحياة، رغم أن بعضهم قبل أيام أو شهور كان لا يفكر في ذلك بل كان يتحدث عن أمور أخري.
الرابعة: أنه لا منقذ لأى دولة الآن إلا نفسها وقدراتها الخاصة، لا رهان على الآخرين ولا احتماء إلا بالنفس.
الخامسة: أن كل هذه التطورات لها تداعياتها الاقتصادية الخطيرة والمربكة على دول المنطقة، فلم تعد هناك دولة لم يطلها تأثير، ومصر واحدة ممن تأثروا اقتصاديا بشدة، وإذا كان التأثير الأبرز هو خسارة قناة السويس لأكثر من 6 مليارات دولار من دخلها خلال 8 شهور فقط، وهو رقم ضخم، لكن هناك تأثيرات أخرى ترتبط بسلاسل الامداد ونقص المنتجات فى العديد من الدول التي نستورد منها، وارتفاع أسعار الوقود عالميًا، وكل هذا له تبعاته الكبيرة علينا اقتصادياً ولابد أن ندركها ونعرف أنها قد تطول وتتزايد.
تأتى الحقيقة الخاتمة لهذا وهى أن مصر تمتلك مقومات الردع والقوة التى تحمى سيادتها ومقدراتها، والكل يعرف ذلك جيدا، ولهذا فمقدراتها محفوظة وخطوطها الحمراء مصونة بفضل الله ثم الجيش المصرى القوى والقيادة الواعية وأجهزة ومؤسسات الدولة الوطنية اليقظة، لكن ما ينقصنا أن نثق فى أنفسنا وفي دولتنا، وألا نترك مساحة أو ثغرة يمكن أن ينفذ منها الباحثون عن سقوط مصر، وخاصة الشائعات والأكاذيب التي اصبحت وسيلة فعالة في ضرب الدول من الداخل، عبر التشكيك والفتنة ولي الحقائق لبث القلق لدى المواطن وصناعة الغضب الداخلي الذي يدمر التماسك.
نحن أمام وضع ظاهر وواضح للجميع واستهداف غير خفي ولا مجال لنا إلا أن نقف خلف دولتنا وقيادتنا وجيشنا، لأن القادم أصعب والحرائق تشتعل في كل مكان، ولن يحمينا منها إلا قوتنا وتماسكنا وإدراكنا ووعينا بحجم الخطر وأولويات المواجهة.