فى قلب محمية «إيفرجلاديس» الطبيعية الخلابة بولاية فلوريدا الأمريكية، حيث تتشابك المستنقعات وتتنوع الحياة البرية فى واحدة من أكثر النظم البيئية هشاشة فى الولايات المتحدة، بدأت تتكشف ملامح مشروع مثير للجدل.. مركز احتجاز ضخم للمهاجرين، أطلقت عليه الصحافة لقب «سجن التمساح» .
خلف هذا الاسم الذى يثير فى الأذهان صورًا من العزلة والسجون الحصينة، تكمن قصة أعمق تعكس ما يصفه حقوقيون بـ التدهور المستمر فى أوضاع حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة، خاصة تجاه الفئات المهمشة من المهاجرين والأمريكيين السود وذوى الأصول الإفريقية والسكان الأصليين (الهنود الحمر).
فى بداية يونيو، وافقت الحكومة الفيدرالية على مقترح ولاية فلوريدا بإنشاء مركز احتجاز للمهاجرين فى مهبط طائرات قديم داخل متنزه «إيفرجلاديس» الوطني، المحاط بالتماسيح من جهة والثعابين من جهة أخرى وهو ما اعتبره موقع أكسيوس الأمريكى لحظة مفصلية فى تحوّل سياسات الهجرة نحو المزيد من التشدد والتجريم.
المشروع، الذى ستصل كلفته إلى 450 مليون دولار سنويًا، سيضم نحو 5000 سرير، وفق ما أعلنه المدعى العام للولاية، جيمس أوثماير. وتزامن بدء أعمال الإنشاء مع نقل شاحنات للمعدات الثقيلة، والخيام، والمولدات إلى الموقع، فى مشهد وصفه البعض بأنه إعلان صريح عن عسكرة ملف الهجرة فى أمريكا.
لكن ما أثار غضبًا واسعًا فى فلوريدا لم يكن فقط تكلفة المشروع الباهظة، بل موقعه الحساس بيئيًا، حيث يهدد حياة نباتية وحيوانية نادرة، ويضرب بعرض الحائط سنوات من جهود الحفاظ على النظام البيئى فى إيفرجلاديس. وصفته جماعة «أصدقاء إيفرجلاديس» بأنه «اعتداء سافر على بيئتنا وحياتنا»، فى وقت خرج فيه مئات المتظاهرين للاحتجاج على ما سموه «سجن العار.
هذا المشروع ليس معزولًا عن سياق أوسع من السياسات المتشددة التى تنتهجها بعض الولايات ذات التوجه المحافظ، وعلى رأسها فلوريدا، ضد المهاجرين، خاصة القادمين من أمريكا اللاتينية ودول الجنوب. وتبرز فى الخلفية نهج إدارة الرئيس ترامب التى يقوم على ربط الهجرة بالإجرام والتطرف والفوضي.
وتشير أرقام منظمة الهجرة الأمريكية إلى أن نحو 70٪ من المهاجرين المحتجزين فى مراكز الاحتجاز الأمريكية لم يُدانوا بأى جريمة، وأنهم غالبًا ما يُحتجزون فى ظروف لا تراعى المعايير الإنسانية أو الصحية، ولفترات طويلة دون محاكمة. بل وتشير تقارير إلى أن أطفالًا يفصلون قسرًا عن أسرهم عند الحدود، فيما تُسجَّل حالات تحرش وسوء معاملة داخل مراكز الاحتجاز، وسط غياب الرقابة القضائية الكافية.
ربط هذا التوجه بمعاملة السود والأفارقة والأمريكيين الأصليين يكشف وجهًا أعمق للأزمة. فهذه المجموعات- منذ قرون- ما تزال تُعانى من التمييز الممنهج فى أنظمة العدالة، والتعليم، والصحة، والسكن، والتوظيف.
وفقًا لتقرير (ايه سى ال يو) فإن السود يشكلون 13٪ فقط من السكان، لكن نسبتهم فى السجون الأمريكية تتجاوز 38٪، بينما احتمالات تعرضهم للعنف على يد الشرطة تزيد بـ2.5 مرة عن البيض.
أما السكان الأصليون (الهنود الحمر)، فقد اعتبرهم تقرير لجامعة كاليفورنيا «الشريحة الأكثر تعرضًا للتجاهل المؤسسي»، حيث يعيش 1 من كل 3 من السكان الأصليين تحت خط الفقر، مع تفشى البطالة وسوء الخدمات الصحية، وانعدام البنية التحتية فى محمياتهم.
يبدو أن «سجن التمساح» هو الحلقة الأحدث فى ما يسميه بعض المراقبين بـ «صناعة الاحتجاز فى أمريكا»، والتى تحقق أرباحًا طائلة لشركات خاصة تتولى تشغيل المراكز، مقابل عقود حكومية بمليارات الدولارات.
وتكشف تقاريرانترسيبت أن نحو 80٪ من المهاجرين فى أمريكا يُحتجزون فى مراكز خاصة مدارة من شركات ربحية مثل GEO Group وCoreCivic، وهى شركات لها روابط سياسية وتمارس ضغوطًا لصالح تمديد العقود وتشديد القوانين. وبهذا تتحول معاناة الإنسان إلى فرصة استثمارية مربحة، وتغيب حقوق المحتجزين وسط حسابات المال والسياسة.
رغم السيطرة السياسية التى يتمتع بها التيار الجمهورى فى فلوريدا، إلا أن مشروع «سجن التمساح» أثار معارضة محلية متنامية. فقد بعثت عمدة مقاطعة ميامى دانييلا ليفين كافا، رسالة رسمية إلى الولاية تطالب فيها بوقف المشروع حتى تقديم تقييم بيئى شامل. كما حذر محامون بيئيون من أن مشروعًا بهذا الحجم دون دراسة الأثر البيئى يعد انتهاكًا صريحًا للقوانين الفدرالية، وهو ما قد يفتح المجال لدعاوى قضائية ضد الحكومة.
يزداد الاستقطاب السياسى حول قضايا مثل الهجرة، والعدالة الاجتماعية، والتمييز العرقي، وهى قضايا لا تزال تُعيد إنتاج الفجوات التاريخية فى المجتمع الأمريكي، رغم ادعائه الريادة فى الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويرى محللون أن «سجن التمساح» ليس مجرد مشروع محلي، بل رمز لاتجاه سياسى أوسع يُعيد تعريف علاقة الدولة بمواطنيها- والمهاجرين منهم على وجه الخصوص- بلغة القمع لا الرعاية، وبأدوات عسكرية فى مكان كانت طبيعته تفترض السلام.