>> تلتهم الحرائق كل شيء أمامها إلا الذكريات التى تبقى محفورة فى أذهان وقلوب من عاشوا أيام ما قبل الحريق.. خاصة لو كانت لحظاتها جميلة وتعيد إليهم أوقات الطفولة البريئة والشباب الجريئة!!
من يتذكر فيلم «عائلة زيزي» إنتاج ٣٦٩١ وإخراج فطين عبدالوهاب الذى أضحك بأفلامه الكوميدية كل المصريين والعرب.. هناك مشاهد يتم فيها ذكر «ستديو الأهرام» وتظهر بوابته الشهيرة على هيئة نصف دائرة «قوس» عندما دخل منها فؤاد المهندس وأحمد رمزى لينقذا أختهما سعاد حسنى من السير فى طريق الفن متخفيين فى أزياء «الكومبارس»!!
يعود تاريخ «ستديو الأهرام» إلى عام ٤٤٩١ عندما أنشأه اثنان من اليونانيين الذين كانوا يعيشون بمصر لتصوير وتحميض أفلام السينما التى انتعش انتاجها فى هذه الفترة خاصة بعد إنشاء «ستديو مصر» عام ٥٣٩١ ضمن منظومة الاقتصاد الوطنى التى أقامها طلعت حرب.. وبعده شيد المصور هرانت ناصيبيان ستديو باسمه فى منطقة الفجالة عام ٧٣٩١.. وفى عام ٤٤٩١ أيضاً قام المخرج أحمد جلال مع زوجته مارى كوينى بوضع حجر أساس ستديو جلال بحدائق القبة.. وبعدهم عام ٦٤٩١ قام يوسف وهبى بالاشتراك مع عائلة نحاس بافتتاح ستديو نحاس بالهرم فى الشارع المقابل لمحافظة الجيزة حالياً.. ويبدو انها كانت تجارة رابحة اضافة إلى انها ساهمت فى تحويل مصر إلى هوليود الشرق.
نعود إلى «ستديو الأهرام» الذى تداولت وسائل الاعلام والمواقع خبر الحريق الذى شب فيه وأتى عليه منذ أيام.. ولكن الحقيقة ان المبنى الأصلى التاريخى للاستديو لم يصب بسوء وكذلك الأرشيف ومعامل التحميض وقد أكدت الدكتورة نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة ذلك.. حيث ان الحريق وقع فى بلاتوهات تابعة للاستديو ولكنها خارجية فى الخلف على شارع خاتم المرسلين وليس شارع الاستديو الرئيسي.. وبالتحديد فى بلاتوه «الحارة المصرية» الذى بناه عام ٦٨٩١ المخرج على بدرخان أثناء تصوير فيلم «الجوع» المأخوذ عن رواية الحرافيش لنجيب محفوظ ومن بطولة سعاد حسنى ومحمود عبدالعزيز ويسرا وعبدالعزيز مخيون.. ولأن البلاتوه تكلف وقتها مبلغا كبيرا فقد تم الاحتفاظ به لتصوير أى أعمال فنية عن «الحارة» مع بعض التغييرات فى الديكور حيث كان قبل ذلك يتم بناء الديكور ثم هدمه فى كل مرة بعد تصوير الفيلم أو المسلسل!!
ومن عاشوا فى هذه المنطقة من شارع الهرم لهم ذكريات جميلة مع الاستديو الذى كان بالقرب من بوابته كشك «عم شعبان» وهو كان صديقا للفنانين ويداعب الأطفال الذين يقفون أمام البوابة لتحية النجوم أثناء دخولهم لتصوير الأفلام فقد كان رحمه الله بشوشا وطيب القلب وظهر فى عدة أفلام وهو يبيع السجائر للممثلين!!
وكان شارع ستديو الأهرام فى الستينيات والسبعينيات مليئا بالفيلات وأول ما تدخله تفوح منه رائحة الفل والياسمين حيث كان فى أوله فيلا المخرج أحمد بدرخان ثم ابنه على بدرخان وكثيرا ما شاهدناه فيها ومعه سعاد حسنى وتم فيها تصوير فيلم «الحب الذى كان» عام ٣٧٩١.. وفى آخر الشارع كانت فيلا أحمد عبدالآخر الذى أصبح محافظا للجيزة وأمامها فيلا رمضان للأخوين العميد عبدالفتاح رمضان ورجل الأعمال عبدالحليم النمس وقد اشترى هذه الفيلا أحمد الريان صاحب شركة توظيف الأموال وأعتقد مازالت ملكا لأسرته وبجوارها فيلا المستشار الدمرداش.. وكان فى وسط الشارع حديقة مليئة بالزهور وأشجار الفاكهة تحولت إلى مدرسة «طه حسين» حيث كان يقيم عميد الأدب العربى على مقربة من هذا الشارع فى محطة مدكور فى فيلم «رامتان» التى أصبحت متحفا وكان بجواره فيلا عميد المسرح يوسف بك وهبى ويقال انه تم فيها تصوير أغنية عبدالوهاب عاشق الروح فى فيلم غزل البنات بطولة نجيب الريحانى وليلى مراد فكان سكان المنطقة يشاهدون هؤلاء القمم مع الممثلين ويصافحونهم.
وكان فى مقابل شارع «ستديو الأهرام» معهد التربية الرياضية للبنين الذى أصبح كلية وبجواره ملهى الأوبرج الشهير الذى كان كثيرا ما كان يتم فيه تصوير الأفلام هو وكازينو وحديقة الأريزونا الذى كان على بعد ٣ محطات أتوبيس وشهد العديد من النجوم وغنى فيه عبدالحليم حافظ فى صيف عام ٣٧٩١ وشدا يومها بـ «رسالة من تحت الماء ويا مالكا قلبى وحاول تفتكرني».. وفى هذا اليوم من شهر أغسطس كان قد تردد ان العندليب الأسمر سيصل إلى حدائق الأريزونا فى المساء فتجمع الآلاف من المغرب ليشاهدوه ويصافحوه ومر الوقت وكل ساعة يقل العدد حتى أصبحنا قرب منتصف الليل وظن الناس انها شائعة فذهبوا جميعا ولم يصمد واقفا سوى ٣ أو ٤ أشخاص «أنا أحدهم» وبالفعل جاء عبدالحليم بسيارته السوداء وكنا نحن فقط فى استقباله خارج الكازينو وصافحناه ودخل سريعاً.. وظللنا نستمع إليه حتى الفجر فقد كان بيتنا قريبا ويصل صوت ميكروفون الأريزونا إلينا!!
إذا عدنا إلى شارع الاستديو ففى الجهة المقابلة له من شارع الهرم أنشأت شريفة فاضل كازينو «الليل» وبجوارها أقامت سهير زكى عمارة سكنية.. وأمامهما كان ملهى صغير تحت الأرض اسمه «الكهف» بجوار شركة الكهرباء وفى شارع فاطمة رشدى الموازى له كانت عمارة على الناصية سكنت فيها يسرا فى بداية مشوارها الفني.. وحدث ان حضرت عزاء والدة صديق لنا من المنطقة وعندما دخلت سلمت عليه لتواسيه فقال له أحد الحاضرين «أيوة يا عم ان مع العسر يسرا» فانفجر شادر العزاء كله بالضحك.. وكان فى العمارة المجاورة للاستديو مباشرة يسكن المطرب السورى أركان فؤاد عندما حضر من سوريا وكان السكان يرونه ينزل ممسكا عوده ليذهب إلى معهد الموسيقى أو ليغنى فى الحفلات!!
أما «ستديو الأهرام» فقد حضرنا فيه تصوير العديد من الأفلام وآخرها أتذكره جيدا كان فيلم «امبراطورية ميم» ويومها شاهدت سيدة الشاشة فاتن حمامة لأول مرة وكان يتم تصوير مشهد حفل ليلة الانتخابات العائلية فى حديقة الاستديو.. وقبل التصوير دخل أحمد مظهر ووجد السيدة فاتن فقبل يدها ثم بدأ التصوير وصاح المخرج حسين كمال صيحة قوية ليخرج غير الممثلين ولكن صديقى مؤمن الشيمى الذى كان بيته ملاصقا للاستديو ويعرف مخابئ المكان أخذنى خلف الأشجار وظللنا نتفرج على كل المشاهد ومن يدقق النظر فى الفيلم سيرى خيالات وراء أشجار سور الحديقة التى يتم فيها التصوير.. وهى فى الحقيقة أنا وصديقى وقلنا فى المدرسة اننا مثلنا فى فيلم «امبراطورية ميم»!!
يرتبط شارع «ستديو الأهرام» فى ذاكرتى بحرب أكتوبر ٣٧٩١م أو العاشر من رمضان ٣٩٣١هـ حيث تطوعنا فى المقاومة الشعبية فحولونا إلى التدريب على حمل السلاح فى نادى الشركة الشرقية للدخان الذى يقع قريباً من الاستديو حيث آخر الشارع كانت هناك ترعة هو على يمينها مباشرة على بعد خطوات من شركة «تليمصر» لصناعة التلفزيون والالكترونيات التى كانت من أوائل الشركات التى تم خصخصتها وقام من اشتراها ببيع أجزاء من أرضها استثماريا وحقق أرباحا ولم يستثمر فى توسيعها وتلك من عيوب عقود الخصخصة الأولي.. المهم ذهبنا إلى التدريب على يد الصول عبدالسلام.. وبالفعل أنهينا التدريب خلال اسبوعين وجاء وقت ترحيلنا إلى السويس وتحدد يوم ٣٢ أكتوبر.. ولكن الرئيس السادات وقع على وقف اطلاق النار يوم ٢٢ أكتوبر وتم إلغاء سفرنا وعندما أخبرونا بكى الفوج كله فقد كنا نريد الذهاب مع ان عمرنا لم يكن يتجاوز ٨١ سنة.. وأمس احتفلنا بالذكرى رقم ٢٥ لانتصار العاشر من رمضان بينما بعد ٧ شهور فى أكتوبر القادم تكون الذكرى رقم ١٥ لأن المعروف ان كل عام هجرى يقل تقريباً ١١ يوما عن الميلادى وان كل ٣٣ سنة ميلادية تزيد أمامها سنة هجرية حيث يعود نفس التاريخ الهجرى والميلادى معا تقريبا.. وفى العاشر من رمضان كان آخر مرة تجتمع فيها كلمة العرب لذلك حققوا الانتصار!!
المهم دارت الأيام ولم يعد شارع الهرم كما كان.. وحتى شارع الاستديو تحول إلى عشوائيات ولم تعد تفوح منه رائحة الفُل والياسمين وهجره أهله.. وتوقف العمل فى ستديو الأهرام لسنوات حتى تم تجديده مؤخراً وبدأ العمل فيه العام الماضى إلى أن جاء حريق «البلاتوهات» الخارجية وهو للأسف لم يدمرها فقط ولكنه أحرق عدة منازل حولها ومازال بعض السكان لا يجدون مأموى رغم ان الدكتور مصطفى مدبولى قرر صرف تعويض فورى لكل أسرة ٥١ ألف جنيه حتى تنتهى شركة المقاولون العرب من إزالة آثار الحريق وإعادة بناء ما تم هدمه أو تلفه.. والحمد لله انه لم تقع خسائر فى الأرواح.
قلوبنا مع الأهالى الذين فقدوا منازلهم.. والأمر يستدعى سرعة الترميم والبناء ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية بعد هذه الكارثة التى لا دخل لهم بها ونزلت عليهم كالقضا المستعجل.. وشاءت إرادة الله أن ينجو «ستديو الأهرام» الأصلى القديم من الحريق وعلى وزارة الثقافة الاهتمام به وإعادته إلى سابق عهده ليظل باقيا ومعه ذكريات كل من عاشوا فى زمن الفن الجميل الذى نتحسر عليه جميعاً!!
بالذمة مش الكلام والكتابة عن الذكريات والفن والسينما والموضوعات الخفيفة التى يعتبرها البعض «تافهة».. أحسن من حرق الدم ونحن نشاهد كل يوم المئات يموتون فى غزة ونحن عاجزون عن فعل أى شيء سوى الدعاء لأننا كتب علينا أن نعيش فى عالم لا يعرف الرحمة ولا العدالة ولا الانسانية.. ووسط تواطؤ أمريكى دولى مع الصهاينة عن اتخاذ مواقف تجبر العصابة التى تحكم اسرائيل على وقف الحرب وإقامة الدولة الفلسطينية وانقاذ ما تبقى من الشعب الفلسطيني؟!
.. إلى كل أم فى عيدها!!
اليوم عيدها.. فمن سواها تستحق الأعياد
لولا حنانها وصبرها.. ما صار شأن لنا بين العباد
سهرت وضحت وربت.. فمهما بلغنا العُلا والأمجاد
نحن الرأس.. نُقبل الأقدام قبل الأيادي
>>>
اليوم عيدها.. وصى بها الرب فى كتاب
ببرها تفتح الجنة أبوابها وتنادي
يا من أطعت ربك.. ورضيت عنك أمك
أهلاً بل ادخل.. ان شئت من كل أبوابي