ونحن على أعتاب حكومة جديدة أتمنى أن يكون ملف الصناعة على جدول أولويات الدولة بكل مؤسساتها، الصناعة الحقيقية التى تخلق قيمة مضافة، الصناعة التى تفتح أبواب التصدير المغلقة، الصناعة التى تفتح بيوت الناس، لقد مللنا من تكرار سرد وعرض مشاكل ومعوقات الصناعة المصرية، لكننا سنستمر حتى ننجح فليس لدينا خيارات أخري، لابد وعلى الفور من اعتبار العقد الحالى هو عقد الصناعة المصرية ولا صوت يعلو فوق صوتها، وذلك يبدأ من حيث انتهى الآخرون ولن نخترع العجلة من جديد، تحديد الصناعات او القطاعات التى لنا فيها ميزة نسبية ثم نبدأ فورا فى التحرك الجماعى تجاه تحقيق الهدف المنشود، أتذكر أننى كتبت هنا منذ فترة عن تجربة أوساهيرا.
ذلك الطفل اليابانى الذى ولد فى مدينة ناجازاكى عام 1860 وسط اسرة فقيرة وداخل مجتمع يعانى ويلات الحروب والفقر، عشق الميكانيكا منذ نعومة أظفاره فتفوق دراسيا حتى وصل الى الجامعة ومنها الى بعثة تعليمية لنيل درجة الدكتوراه فى ألمانيا، كان معه مجموعة من الطلبة اليابانيين ابتعثوا جميعا لتعلم الهندسة الميكانيكية ونقلها من المانيا الى اليابان، لاحظ أوساهيرا أن الألمان يقدمون لهم فى قاعات البحث كل ما هو نظرى فقط دون التطرق الى الاطر التطبيقية، قرر أوساهيرا الاعتماد على نفسه فقام بشراء محرك صغير من أحد المعارض فى مدينة هامبورج وعكف عليه ثلاثة ايام كاملة يجرب بنفسه فك وترقيم ثم إعادة تركيب كل قطعة فى المحرك، بعدها بدأ فى إصلاح وصيانة أحد المحركات بنجاح، لم يكتف صاحبنا بعمليات الصيانة والفك والتركيب بل كان شغله وحلم حياته أن يرى كيف يتم تصنيع المحرك، ترك صاحبنا قاعات الدروس والمحاضرات التى تقود الى شهادة الدكتوراه واتجه الى أحد مصانع صهر وتشكيل المعادن فى هامبورج والتحق للعمل بوظيفة «عامل» تابع بنفسه كل مراحل تصنيع المحرك من لحظة صهر المعادن الى لحظة دوران صوت المحرك، استمر صاحبنا تسع سنوات كاملة يعمل ويرى ويتعلم ليحقق حلم حياته فى صناعة محرك يابانى مائة بالمائة، عاد زملاؤه الى اليابان يحملون شهادة الدكتوراة وعاد أوساهيرا يحمل محركا بين يديه صنعه بيديه وكلفه ذلك 9 سنوات كاملة من العمل والتعلم فى المانيا، علم امبراطور اليابان بقصته فمنحه 5000 عملة ذهبية فاشترى بها ماكينات ومعدات انتاج المحرك من المانيا وشحنها الى اليابان وأنشأ أول مصنع لإنتاج المحركات اليابانية وقضى 9 سنوات أخرى من الكفاح والعمل والتعليم، وطلب الامبراطور مقابلته فأحضر معه 9 محركات ودخل على الامبراطور وقام بتشغيلها جميعا وهنا قال الامبراطور «هذه أفضل مقطوعة موسيقية أسمعها فى حياتي» انها صوت المحركات التى حملت اليابان من حالة الفقر والتبعية الى حالة الغنى والسيادة، وتخليداً لقصته العظيمة ابتُكِر المثل الياباني: اعمل 9 ساعات، 8 لأجلك، وساعة من أجل اليابان، هذه القصة تبدو بسيطة لكن نتائجها غيرت تاريخ اليابان وأصبحت اليابان بفضل دوران محركاتها وصناعاتها وتكنولوجياتها من أغنى دول العالم، ونحن هنا فى مصر نشيد مشروعنا الوطنى كان لزاما علينا جميعا أن نعرف ونفهم ونثق ان توطين وتعميق الصناعة هو حجر الزاوية ونقطة الانطلاق، اذا اردنا أن نكون فلا سبيل الى تلك الكينونة إلا بالصناعة والزراعة، لقد انتهى عصر الفهلوة الصناعية، فمصر ومشروعها أكبر من مرحلة الفك والتركيب ومراحل التجميع والتشميع ومحدودية المكون المحلي، الازمة الاقتصادية ومشكلة الدولار تحتاج الى فهم لأصل المشكلة وليس الاهتمام بعرضها، اصل المشكلة ليس قرارات البنك المركزى او الحكومة او السوق السوداء او اى تفاصيل يمكن ان تكون ذات صلة، القصة اننا لا نصنع احتياجاتنا ولا نزرع احتاجاتنا ولا نعترف بحقيقة ظروفنا، فاذا كانت الزراعة مقيدة بالثروة المائية فلماذا تتقيد الصناعة؟؟ ماذا يمنعنا من تصنيع مئات السلع التى نستوردها؟؟ عفوا يا سادة، السؤال الذى نسيته هل استطعنا تصنيع محرك مصرى مائة بالمائة ؟؟ وهل لدينا فى مصر من فكر كما فكر أوساهيرا؟؟
دلونى بربكم على «أوساهيرا المصري»