سؤال غريب يفرض نفسه على تفكيرى مع اقتراب الشهر الفضيل.. ما هى علاقة «الطرشي» أو المخللات، وبالتحديد «الطرشي» البلدى الذى يغلب عليه اللون الأحمر والمذاق الحار الحاد، وبين شهر رمضان. أعرف أن السؤال يبدو غريبا، ولكن الأكثر غرابة هو ما كان ولا يزال حتى الآن يحدث بالفعل فى الكثير من مناطق القاهرة والمحافظات: باعة الطرشى يظهرون فجأة، يعرضون بضاعتهم المالحة الحارة الشهية على الطرقات، يضعون أكوام المخللات فى أطباق كبيرة ويصطف حولهم العشرات وربما المئات من راغبى الشراء مع اليوم الأول من الشهر الفضيل، وبالتحديد قبل أذان المغرب بوقت قصير لا يتجاوز الساعة غالبا، ثم يختفون فجأة كما ظهروا فى نهاية شهر الصيام، لماذا ؟، لا تفسير. كل ما نعرفه أن هذا المشهد جزء مهم من منظومة المشاهد الاحتفالية الرمضانية التى تجعل للشهر الفضيل فى الأحياء الشعبية ملامح مختلفة جدا وجميلة أيضا، تلك المشاهد التى تتسع دائرتها لتشمل تعليق الفوانيس و الزينات، ونصب الأفران فى الشوارع لإعداد الكنافة والقطايف، والزحام على باعة الفول المدمس، والسهر حتى أذان الفجر فى أحياء الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والسيد البدوى والمرسى أبو العباس والعشرات من الأحياء التى تضم مساجد وأضرحة لأولياء الله الصالحين.
ونعود إلى الطرشى بالتحديد، اذكر أننى فى طفولتى المبكرة كنت المكلف دائما بشراء الطرشى يوميا من البائع الذى يقف بجوار مسجد ضاحية عزبة النخل التى كانت جميلة وهادئة ووادعة قبل أن يثقلها الزحام، وكانت المسافة بين بيتنا وبين البائع تقترب من الكيلو متر، وكان توقيت الانطلاق لرحلة الشراء اليومية يتزامن مع بدء تلاوة القرآن الكريم فى الإذاعة المصرية والتى تسبق أذان المغرب وتستمر لمدة نصف ساعة بصوت القارئ المعجزة الشيخ محمد رفعت رحمه الله، والذى أصبح مجرد سماع صوته العندليبى الساحر الآسر يطلق كل المشاعر المرتبطة بأجمل وأروع وأعظم شهور السنة على الإطلاق.
كنت اقطع المسافة إلى بائع الطرشى العجوز المبتسم دائما المتجهم أحيانا «عم داود»، عدوا فى دقائق وأعود بسرعة السلحفاة خوفا على ماء الطرشى الثمين والذى يتأرجح فى الطبق مع كل اختلال فى التوازن. بالطبع لم يكن باعة الشوارع يعرفون قبل ثلاثة أو أربعة عقود التعبئة فى أكياس بلاستك.. وعلى من يرغب فى الشراء أن يحضر طبقه معه.
ما علاقة كل ذلك بالشهر الفضيل؟، لا أعرف، ولكن ما أعرفه هو أن الزمن لو عاد إلى الوراء لكررت نفس التصرفات ونفس العادات بنفس التفاصيل، ولعشت نفس أحاسيس السعادة الطفولية الرائعة، حتى بعد أن عرفت أن الطرشى أو المخللات والأسماك المملحة وكل ما يعتمد فى إعداده وتجهيزه على الملح، سموم قاتلة، لو عادت الأيام سأقف سعيدا أمام بائع الكنافة، اتابعه بإعجاب ودهشة وهو يلف خيوطها البيضاء على الصاج الملتهب ببراعة، لأحملها ساخنة إلى البيت ممنيا نفسى بوجبة شهية وأمسية رائعة ليس فيها تليفزيون ولا مسلسلات ولا فوازير ولا شيء سوى جلسات السمر الممتعة مع الأسرة والجيران بعد صلاة التراويح حيث الأحاديث الشيقة والذكريات الجميلة والتواصل الرائع.
فى رمضان على زمن طفولتنا كانت كل الأشياء تفرحنا، كانت هناك دائما أسباب للفرح، حتى ولو كانت لا تتجاوز قطعة كنافة أو طبق طرشى أو حبة قطايف أو فانوساً ورقياً نصنعه بأيدينا ونعلقه بحرص على جدار البيت، كانت طبلة المسحراتى فى وقت متأخر من ليل الشتاء القارص، تدغدغ مشاعرنا.
هل يشعر أطفالنا بنفس الفرحة.. فى زمن المسحراتى الآلى أو المنبه والتليفزيون والدش والمحمول والرسائل القصيرة والوجبات الجاهزة والمعلبة والتواصل المفقود والعلاقات الفاترة، قد يحتاج أطفالنا إلى البحث طويلا للعثور على سبب استثنائى للفرح.