كان من عادته أن يركب سيارته ويتجول بها فى أرجاء حى السيدة زينب مسقط رأسه.. يستمع إلى الناس ويرى احوالهم وكان بذلك يشحن بطاريات ابداعه.. ملتصقا بالواقع وكثيرا ما تابع الصبية فى المنطقة يلعبون ويكون أحدهما فريد شوقى والأخر محمود المليجى ويتصارعان.. على غرار ما يحدث فى أفلام «ملك الترسو» وقد كنا فى دار العرض نصفق لكل لكمة يسددها فريد إلى المليجى كأنها مباراة فى الملاكمة.. ونحن نتابع أفلامه فى سينمات الدرجة الثالثة.. وعندما لاحظ أن الصبيان انصرفوا عن تجسيد هذه اللعبة طلب كاتب السيناريو عبدالحى أديب بعد منتصف الليل وهو يصرخ:
أنا انتهيت يا عبدالحي.. العيال انصرفوا عني!
وجاء إليه صديقه الكاتب وكان فريد بلغ الستين وبعد نقاش طويل.. اتفقا على تغيير جلده وأن يظهر للناس بشكل يناسب المرحلة العمرية التى بلغها.. فلم يعد مكياج السينما يخفى آثار الشيبة ولا يمكن خداع الجمهور والأهم إلا يخدع الفنان نفسه..وجلس يفكر ويشارك فى كتابة أفلامه لتلك المرحلة «لاتبكى يا حبيب العمر/ ومضى قطار العمر» وكما كان ناجحا فى الاكشن.. ارتبط بالأفلام الإنسانية وظل على القمة.. وهذا هو الدرس الذى أحب أن أهديه إلى محمد سعد.. ونحن لانشك فى قدراته كممثل منذ ظهر فى فيلم «الطريق إلى ايلات» ثم مسلسل «من الذى لا يحب فاطمة» حتى لمع فى فيلم «الناظر» وبدأ يتحول إلى «لمبي» بمشتقاته أنبهر الجمهور بحركاته وطريقته.. ثم من الطبيعى أن تتحول الدهشة إلى اعتياد.. ولو أنه قدم «اللمبي» كشخصية فى اطار قصص متنوعة مثلما فعل اسماعيل ياسين فى سلسلة افلامه التى ظهر فيها باسمه «فى الطيران/ فى البحرية/ فى البوليس البحري/ فى متحف الشمع/………» لكن مشكلة سعد انه انحاز إلى اللمبى على حساب الموضوع الذى يقدمه وكرره فى «عوكل/ بوحة/ اطاطا/ كتكوت/ .
ويبدو أنه راجع حساباته بعد أن ظهر مع شريف عرفة فى فيلم «الكنز» بشكل مختلف واثبت قدراته كممثل.. وفى فيلمه الجديد «الدشاش» يتخلى عن اللمبى ويظهر كصاحب أحد الملاهى الليلية رجل له نفوذ ويمتلك القوة كرئيس عصابة ويصطدم بأمثاله ويقرر الانتقام «راجع فى ذلك أمير الانتقام/ أمير الدهاء».. لكنه هنا يقدر ويعفو.. ويعترف بأن معركته خاسرة وان كسبها لانها تدور كلها فى الحرام شكلا وموضوعا ولا اعرف من قال لهم بأن القوة لا تكون الا مع عصابة.. ومسدسات وكباريهات يا أهل الفن القوة فى الاساس هى قوة الإرادة قبل السلاح.. وكم فى حياتنا من هؤلاء فكل ناجح وشريف فى هذا الزمن الصعب هو بطل حتى لوكان من الباعة المتجولين الذين يأكلونها بعرق الجبين ويرفضون الملايين الملوثة مهما كانت.. وإذا ارادوها أكشن عليهم بقصص ابطال الجيش والشرطة وقصص الشهامة والجدعنة.. فقط يجهدون انفسهم قليلا ويبحثون للخروج من الدائرة المعتادة التى اكل عليها الدهر وشرب.. ولما اراد المعلم «نمبر زيرو» ان يكون «ابن حلال».. رأيناه فى النصف الثانى من المسلسل يتحول إلى بلطجى وخارج عن القانون.. وكأن المسألة لا وسط فيها ولا اعتدال.
وما علينا الا ان نقول لمحمد سعد حمداً لله على السلامة.. ولعلك قد استوعبت الدرس بان الموضوع الذى تقدمه بقدر ما تخدمه وتختاره بعناية سوف يخدمك ويضعك فى المكانة التى تحلم بها.. الا إذا كانت جهات الإنتاج تحاصركم فى أدوار بعينها بحجة انها جماهيرية.. والحقيقة أن العنف الذى نراه على الشاشات الإخبارية وانتقل إلى الشارع والمنازل بل والجامعات الخاصة المميزة والناس تحتاج إلى أعمال تخفف عنها وتعيد إليها إنسانيتها المفقودة.. تحتاج إلى العمل الفنى الذى يقرب المسافات بين الأشقاء والأصدقاء بعد ان تناحروا على المال والمناصب وتحالفوا مع الشيطان ضد الأهل والاحبة وانظروا إلى صفحات الحوادث.. ويكفى ما قدمه اولاد رزق وملوك البلطجة وابراهيم الاسود وعبده موتة وجعفر العمدة وفى المقابل لا يريد الناس المزيد من الدجل والشعوذة بحثا عن جذب الاهتمام بكل السبل.
رجوع الدشاش عن الجبروت لعلها رسالة فى نهاية الفيلم تؤكد بأن سعد يدرك تماما بأن العنف لايمكن معالجته بالمزيد من العنف.. وقد أحسن كاتب السيناريو بدأ الفيلم بالدشاش وهو يخدم فى المسجد.. وقد جاءت المشاهد التى جمعت بين سعد والكبير رشوان توفيق شيخ المسجد دافئة وانسانية ومرطبة لاجواء القتل والدم التى جاءت فى الفيلم.
الاكشن قد يتحقق فى قصة حب هادئة او فى سيرة انسان مكافح.. وفى قصة فريد شوقى الدرس المهم بعد ان غير جلده وظل ناجحا ونجما.. وفى الدشاش لانقف أمام تفاصيل موجودة فى أفلام سابقة.. لا الأهم بطل الفيلم نفسه فهو يستطيع أن يقدم الكثير مما يعيد إلى جماهيريه ويخدم به الفن الحقيقى ويقدم رسالة مفيدة حتى لو جرى ذلك فى إطار كوميدى وهو ما يتوقف على الكتابة ووعى المؤلف بما يكتب والكلام هنا لكافة نجوم الصف الاول وتعلموا ايضا من يحيى الفخرانى أن يغيب اذا لم يجد ما يرضيه فيكون حاضرا اكثر وعلينا أن ندرك بأن كل شيء فى الفيلم او المسلسل مقصود «الملابس- الديكور- الحركة- الكلمة» ويستطيع الفن العظيم ان يفعل المستحيل اكثر مما يقال فى المدارس والجامعات.. وعلى الفنان الحقيقى أن يتقى الله فيما يقدم لاهله وناسه وكل شيء بحسابه